لا تلوموا اليورو على الفوضى التي تعانيها إيرلندا

لا تلوموا اليورو على الفوضى التي تعانيها إيرلندا

المشككون في اليورو يعتبرون أن الأزمة الإيرلندية دليل على غباء وجود عملة واحدة. لكن في الوقت الذي تحتاج فيه منطقة اليورو إلى الاصلاح، فإن فكرة إلقاء الملامة على اليورو في المتاعب التي تواجهها إيرلندا هي فكرة ساذجة.
ويتحدث كثير من مؤيدي اليورو بأسف عن أن العملة سمحت في أعوام الطفرة بتدفقات ضخمة لرأس المال من ألمانيا وغيرها من بلدان الفائض إلى إسبانيا، والبرتغال، واليونان، وإيرلندا. وبمعيار الحكمة التقليدية، هذه الاختلالات غير صحية - ويعكف الاتحاد الأوروبي حالياً على صياغة لوائح للحد منها.
لكن السماح بتدفق رأس المال من بلد عضو إلى آخر من دون أن يشكل ذلك خطراً على أسعار الصرف يعتبر ميزة رئيسية لليورو. ولو كان ذلك ممكناً على الصعيد العالمي، لما شعرت الاقتصادات الناشئة بأنها مضطرة لمراكمة احتياطيات ضخمة لحماية نفسها ضد الأزمات، ولكان من الممكن أن تكون مستقبلة صافية للاستثمار بدلاً من ذلك. فعندما تعمل الأسواق المالية المتكاملة بشكل جيد، فإنها تقدم للمستثمرين عوائد أعلى، وللشركات تمويلاً أرخص، وتوزع رأس المال بصورة أفضل في جميع البلدان.
والمشكلة ليست في كون المدخرات تدفقت من ألمانيا إلى البلدان الطرفية في أوروبا، بل في كونها مولت الفقاعات العقارية وليس الاستثمار المنتج. لكن اللوم في ذلك يقع على المستثمرين الذين يتصرفون كالقطيع، وعلى البنوك المختلة، وعلى الحكومات الغبية وليس على اليورو. ففي النهاية كانت هناك فقاعات عقارية ضخمة أيضاً في كل من أمريكا، وبريطانيا، وآيسلندا وغيرها من البلدان التي ليست أعضاء في منطقة اليورو.
من المؤكد أن الانضمام إلى اليورو تسبب في انخفاض أسعار الفائدة الإيرلندية، لأنه وفر الاقتراض الرخيص الذي دعم الطفرة. لكن على صعيد الاقتصاد الكلي، كان بوسع الحكومة الإيرلندية أن تشدد السياسة المالية - بل وتحقق فوائض كبيرة في الميزانية. وعلى مستوى الاقتصاد الجزئي، كان بوسعها أن تحد من القروض العقارية التي تقدمها البنوك - من خلال زيادة متطلبات رأس المال لمقاومة الدورات الاقتصادية، مثلا - بدلاً من تشجيعها بالاقتطاعات الضريبية.
لقد كانت الفقاعة العقارية في إيرلندا كبيرة بشكل خاص. فقد تضاعفت قيمة أسهمها السكنية أربع مرات في السنوات العشر المنتهية عام 2006، مع تضخم قطاع الإنشاءات ليشكل ثُمن الاقتصاد. وقفز سعر المنزل العادي في مدينة دبلن أكثر من خمس مرات - وانخفض إلى النصف تقريباً منذ ذلك الوقت. ولا بد أن يكون هذا الانهيار العقاري مؤلماً. لكن ما كان ينبغي أن يؤدي إلى أزمة دين سيادي. فقد كان دين إيرلندا العام يشكل 25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عشية اندلاع الأزمة، وهو الأقل في منطقة اليورو.
وتمثلت الغلطة القاتلة التي ارتكبتها الحكومة في تدخلها ليس فقط لضمان جميع المودعين في البنوك الإيرلندية، بل أيضاً في ضمان حملة سنداتها.
والآن الخسائر الضخمة التي تكبدتها البنوك المفلسة تجر الدولة الإيرلندية معها، ولو ساء الركود الذي شهدته بريطانيا لربما انتهت حكومة المملكة المتحدة إلى وضع مشابه.
إن التمويل الرخيص من البنك المركزي الأوروبي هو وحده الذي أبقى على طوق النجاة بالنسبة للبنوك الإيرلندية المفلسة حتى الآن. ولو كانت إيرلندا خارج اليوور فما من شك أنها كانت ستواجه المصير الذي آلت إليه آيسلندا: كانت عملتها ستنهار وكان النقد الأجنبي نفد من بنكها المركزي، وهو ما يبقي بنوكها قائمة. وبعيداً عن التعجيل بحدوث الأزمة، أعطى اليورو لإيرلندا مجالاً حيوياً للتنفس. ومما يؤسف له أن الحكومة فشلت في الاستفادة منه بشكل جيد.
صحيح، لو كانت إيرلندا خارج اليورو لنعمت بعملة أضعف الآن، وهذا يمكن أن يعزز الصادرات ومن ثم النمو. لكن في كل الاقتصادات الصغيرة المفتوحة تميل الانخفاضات في قيمة العملة إلى تغذية التضخم بسرعة، ولذلك تعزيز القدرة التنافسية ربما لا يكون كبيراً بتلك الدرجة. وعلى أية حال، أقدمت إيرلندا بالفعل على خفض الأجور والأسعار من أجل استعادة قدرتها التنافسية - وهذا ما يعتبر في فحواه خفضاً داخلياً لقيمة العملة. وإذا كانت راغبة في إجراء مزيد من الخفض على تكاليف وحدة العمل، فبإمكانها أن تخفض الضرائب التي تفرضها على الرواتب، وأن تستبدل الإيرادات المتأتية من هذا البند بزيادة ضريبة القيمة المضافة، أو بفرض ضريبة على أسعار الأراضي.
من المؤكد أن ترك اليورو وإعادة العمل بالبنت ليس حلاً، لأن إيرلندا ستكون عاجزة عن سداد ديونها المقومة باليورو بالبنت الذي تم خفض قيمته. ولا تستطيع بمفردها أن تسدد مبلغ الإنقاذ الذي يقدمه لها الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي - لأن هذا المبلغ من الناحية العملية هو قرض بأسعار فائدة عالية عقاباً لها. ولن يعمل ذلك إلا على تأجيل الأزمة فقط.
ولا ينبغي استنزاف دم دافعي الضرائب الإيرلنديين حتى آخر قطرة لسداد ديون المستثمرين - ومن بينهم البنوك الأوروبية وصناديق التحوط الأمريكية - الذين قامروا بإقراض البنوك الإيرلندية. بدلاً من ذلك، ينبغي أن يتم حسم نسبة من مستحقات أولئك الدائنين عبر إعادة هيكلة دينهم مع قيام الاتحاد الأوروبي، أو صندوق النقد الدولي بتقديم قرض تجسيري إلى أن تتمكن إيرلندا من إصلاح العجز في ميزانيتها. ومن المفارقة أن اقتراح ألمانيا الداعي إلى ضرورة أن يخسر حاملو السندات في المستقبل هو الذي أوصل هذه الأزمة إلى ذروتها. إنها لفكرة جيدة أن يتم تنفيذه الآن.

الكاتب مؤلف كتاب ''ما بعد الصدمة: إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي بعد الأزمة''

الأكثر قراءة