هيئة الإسكان .. يبقى الوضع على ما هو عليه

أعلنت الصحف السعودية الأربعاء الماضي قيام محافظ الهيئة العامة للإسكان بتوقيع عقد تنفيذ 593 وحدة سكنية في محافظة القنفذة في مكة المكرمة. هذا الإعلان ينضم إلى سابق الإعلانات عن مشاريع مماثلة في أنحاء المملكة تم التوقيع على عقود تنفيذها من قبل الهيئة، التي تندرج ضمن خطة الهيئة لتنفيذ عدد من الوحدات السكنية يبلغ ثمانية آلاف وحدة سكنية ــ بحسب الخبر، وكأن حجم مشكلة الإسكان ينحصر في هذا الرقم المتواضع، وليس في الأرقام التي تتحدث عما يزيد على 200 ألف وحدة سكنية سنويا، وقد تزيد، خاصة في ظل التركيبة السكانية الخاصة التي تعيشها المملكة. هذا الخبر جدد التساؤل في خاطري عن ماهية دور الهيئة، وهل ما تقوم به من أعمال البناء والتطوير لهذه الوحدات السكنية هو الوسيلة الأنجع لمعالجة قضية الإسكان في المملكة؟ قد يعد الكثيرون هذا المقال تكرارا مملا لرؤية سبق طرحها في محافل متعددة، ويبدو أن القائمين على الهيئة لا يعيرون لها بالا، ومنشغلين بأعمال التطوير والبناء لمشروعات لا تسد عين شمس حقيقة حجم المشكلة وواقع الأزمة. لكنني رأيت أن أجدد طرح هذه الرؤية، عسى أن تجد لها هذه المرة أذنا صاغية، أو شيئا من القناعة بجدوى النظر فيها وبحثها على محمل الجد على أقل تقدير.
قضية الإسكان قضية مشتعبة الجوانب، تمس اهتمامات كل المواطنين دون استثناء، إذ إن السكن يمثل إحدى حاجات الإنسان الأساسية. ومعالجة هذه القضية تتطلب فهما دقيقا وتعاطيا شموليا مع جوانب المشكلة برمتها، انطلاقا من فهم جذور المشكلة ومسبباتها عبر الرجوع إلى تاريخ تعاطي الدولة والمجتمع والسوق العقارية مع قضية الإسكان. جوانب القضية ــ كما ذكرت ــ متشعبة ومتعددة، أولها وربما أصعبها على الحل هو مشكلة الأراضي التي أصبحت عملة نادرة بأسعار مرتفعة في بلد يتمتع بمساحات شاسعة من الأراضي، ويعاني سيطرة فئات معينة على مساحات كبيرة من الأراضي غير المطورة، يختزنونها كاختزان الذهب والفضة، دون أن يتحملوا عناء دفع أي أعباء مالية مقابل هذا الاختزان، ناهيك عن دفع الزكاة الشرعية التي هي حق معلوم للسائل والمحروم. واقع مرير أصبحت فيه الأراضي سلعا تجارية تخضع لممارسات المضاربة والاحتكار التي صعدت بأسعارها إلى عنان السماء، وأصبحت الأرض العنصر الأصعب في معادلة الإسكان والتطوير الإسكاني في المملكة. وثاني جوانب القضية هو جانب التمويل، الذي يعاني فيه المطورون الأمرين للحصول على موارد تمويلية تدفع عجلة التنمية والاستثمار في هذا القطاع، في الوقت الذي ينزف فيه صندوق التنمية العقارية المليارات في قروض لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا تحقق أي أثر في معالجة المشكلة أو حتى التقليل من حجمها، عدا كونها أسهمت بفاعلية في ترسيخ ثقافة التطوير والبناء الفردي للمساكن، وهي الثقافة التي أنتجت بنية عمرانية سكنية متهالكة، كانت سببا مباشرا في تعثر حلول التمويل العقاري الذي يستند بالدرجة الأولى إلى عوامل الجودة والكفاءة في بناء الوحدات السكنية. والجانب الثالث هو جانب التشريعات التي ينادي الجميع بضرورة مراجعتها والدفع باستكمالها وتحديثها للتأسيس لمناخ جاذب للاستثمار في هذا القطاع، يحفظ لكل الأطراف حقوقها، ويقلل من حجم المخاطر التي تحدق بكل من يفكر في الانخراط في العمل في هذا القطاع، وهي المخاطر ذاتها التي حرمت هذا القطاع حتى الآن من استقطاب اهتمام جاد من الشركات العالمية التي تحمل الخبرة والكفاءة إلى جانب قدرات التمويل التي كانت من الممكن أن تدعم حل هذه المشكلة. ورابع الجوانب هو مسألة الوعي الإسكاني لدى المواطنين، والحاجة إلى التعاطي مع الحاجة إلى المسكن بشكل متدرج يتبنى مفهوم الادخار والتدرج في تملك المسكن المناسب، بدلا من القفز بأحلام التملك إلى بيت العمر في خطوة واحدة. والجانب الخامس هو مسألة قصور الخبرة والمعرفة بآليات وتقنيات البناء، والحاجة إلى تطوير مقاربتنا لتطبيقات التخطيط العمراني، لتطوير بيئات سكنية بمساحات ملائمة وخدمات متكاملة. والجانب السادس هو القصور الكبير في جانب الخدمات المصاحبة للتطوير الإسكاني، بما في ذلك خدمات التأمين والصيانة الدورية والتسويق المحترف وغير ذلك من الخدمات التي لا تكتمل جوانب الحل من دونها. أجزم أنني لم أحصر كل جوانب القضية، فهناك بالتأكيد جوانب أخرى رئيسة وفرعية ذات علاقة بصلب القضية، لكنني أردت فقط أن أبرز حجم المشكلة ومقدار تعقيدها، في تأكيد للحاجة الملحة إلى تبني معالجة شاملة لهذه الجوانب كافة للوصول إلى الحل الفاعل لهذه الأزمة.
والسؤال: أين هيئة الإسكان من هذا الفهم لواقع المشكلة؟ بالتأكيد لست أول من كتب في هذا الموضوع، ولن أكون آخرهم. وهيئة الإسكان تراوح مكانها، ولم نجد منها بعد أية مبادرة حقيقية لأداء دورها المأمول في حل المشكلة. لقد حددت الدولة أهدافها من إنشاء هيئة الإسكان في منظومة متكاملة من الأهداف والمحاور التي بلغت في مجملها ثمانية محاور، لكن الهيئة الموقرة أغفلت كل تلك المحاور، وأفردت اهتمامها وتركيزها على محور واحد, هو محور البناء المباشر للوحدات السكنية. والمشكلة أن هذا الواقع لا يؤدي فقط إلى تعطيل وضع الحلول الملائمة لهذه الأزمة التي تحدق بأبناء الوطن وأمنهم واقتصادهم ومعيشتهم، لكنه ــ في رأيي ــ يزيد في عمق المشكلة وتعقيدها، خاصة أن تنفيذ هذه المشاريع التي تعلنها الهيئة بين الفينة والفينة يتم بذات الآليات والوسائل والعقود التي تتم بها مشاريع الدولة التي تعاني التعثر والتعطيل، وتنتج جودة متدنية من جراء المنافسة المحمومة على أقل الأسعار وفق نظام المشتريات الحكومية، علاوة على تبديد جهود هذا الجهاز الذي كان الأحرى به توجيه هذه الجهود لتحقيق المقاربة الشمولية الواجب تبنيها في معالجة المشكلة، إذ لن يؤدي هذا التأخير في تقديم الحلول الملائمة إلا إلى زيادة عمق المشكلة وتضخيمها عبر تراكم وازدياد أعداد المواطنين الذين يحتاجون إلى توفير السكن. والمشكلة أن الهيئة لا تملك حتى الآن رؤية واضحة للكيفية والأسس التي سيتم بناء عليها تخصيص هذه الوحدات السكنية التي يجري العمل على بنائها، وأخشى ما أخشاه أن تنتهي هذه الوحدات إلى ما انتهت إليه وحدات الإسكان العاجل التي قامت الدولة ببنائها في وقت سابق، وبقيت خالية تعصف بها الرياح لما يزيد على 17 عاما، قبل أن تكون ملجأ لضيوفنا من الكويت الشقيقة إبان الغزو.
في الخلاصة وختام القول، وبهذا الخبر ومدلولاته، نرى أن الهيئة ما زالت مستمرة في النهج ذاته الذي تبنته دون أن تصغي لنصح مخلص من إخوة في المواطنة والهدف. وفي النتيجة، يبقى الوضع على ما هو عليه، وعلى المتضرر اللجوء إلى ... بالتأكيد ليس القضاء، فقضاؤنا ليس لديه الحل. أجزم أن الملجأ بعد الله هو لملكنا الصالح الذي نتطلع دوما إلى تدخله بشكل حاسم لمعالجة مشكلات الوطن، كما شهدنا في كل ما عشناه من أزمات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي