Author

كيف نجعل من النخلة شجرة حضارية؟

|
كان ثمر النخلة المباركة أيام طفولتنا وما قبل ذلك يسد أكثر من 50 في المائة من غذائنا اليومي، وفي وقتنا الحاضر لا تجد إلا القليل من الجيل الجديد الذين يتناولون، على استحياء، حبات قليلة من التمر مع وجباتهم اليومية. ومن المعروف لدى معظم أفراد المجتمع أن ثمرة النخلة، بأنواعها، البلح والرطب والتمر تحتوي على جميع مُقومات الغذاء الكامل للإنسان، بدليل أنه كان في الماضي الغذاء الأساسي لفئة كبيرة من سكان وسط الجزيرة العربية. ومذاق الرطب الطري هو الأفضل خلال وقت الجَني، وهي مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر. ولكن مع وجود البرادات في عصرنا الحاضر، أصبح بالإمكان حفظ الثمر الطازج طوال أيام السنة دون أن يظهر عليه تغير جوهري. أما التمر فيحتفظ بخصائصه أشهر طويلة دون حاجة إلى التبريد إذا فُرِّغ من الهواء الذي عادة ما يكون مصدراً لنمو حشرة السوس داخل حبة التمر. ومن النادر في المجتمع القديم أن يُخلط التمر مع مواد غذائية أخرى من أجل عمل أنواع مختلفة من الطعام كما هي الحال اليوم التي أشهرها الحلويات والمُعجنات وبعض أنواع الكيك. وربما أن خلطة التمر بعد نزع النوى مع قرصان (جمع قرص) البُرْ لعمل ما يُسمى بالحنيني في منطقة نجد هي الخلطة الوحيدة المعروفة آنذاك، بعد أن يُضاف إلى الخليط كمية من السن البري، وهي أكلة لذيذة وشهية في فصل الشتاء. ومن الممكن أنه كانت هناك خلطات قديمة مُشابهة من التمر في أماكن أخرى من المملكة. وشجرة النخل تجمع بين الثمر اللذيذ والمظهر الجميل والفوائد الكثيرة. فظلالها ونظافة مُحيطها يكونان عامل جذب للتمتع بالجلوس تحت ظل جريدها وهي تُرفرف مع حركة الهواء. ونحن اليوم نستورد معظم أنواع الحلويات ولدينا أفضل وألذ مصدر للحلويات. فالتمر يحتوي، إلى جانب المذاق الحلو، كثيراً من المعادن والأملاح النادرة والفيتامينات التي تحتاج إليها أبداننا، وهو مُتوافر لدينا بكميات تزيد بكثير عن حاجتنا وبأسعار مُتدنية. فلماذا إذاً لا نجد من المستثمرين وأصحاب مصانع الحلويات والصناعات الغذائية ومؤسسات تعبئة التمور الاهتمام الذي يتناسب مع كميات الإنتاج وفرص التصدير؟ ونحن هنا لا نقصد تصدير التمر المُعبأ بالأكياس والأواني البلاستيكية على الطريقة التقليدية التي ربما تصلح للبيئة والأسواق المحلية. فالتصدير إلى الخارج، وعلى وجه الخصوص، إلى الشعوب الأوروبية والأمريكية وبعض الدول الشرقية المتطورة، يحتاج إلى دراسة علمية وإبداع في طريقة العرض وتوضيح كامل للفوائد الغذائية والصحية لجميع أنواع التمور المراد تصديرها، ويكون مُدوَّناً على عُلب وأواني التصدير، وفي الوقت نفسه، إعداد برامج دعائية مُتطورة ومُتكاملة تجتذب أنظار المستهلكين. ومن الأفضل أن يُسوَّق التمر لغرضين، الأول كمادة ''حَلاَ'' يُقدَّم بعد الطعام على الطريقة الأوروبية مكان طبق الحلا الذي عادة ما يتناولونه بعد الوجبات الرئيسة، ''الديزيرت''، على أساس أن التمر أكثر فائدة من الناحية الغذائية والصحية. والعرض الثاني يشمل بعض أنواع البسكويت والكيك والمعمول والأكلات الأخرى التي من الممكن أن يدخل في تصنيعها التمر كمادة أساسية. في إحدى رحلاتي إلى الولايات المتحدة، قمت بزيارة قصيرة لمزارع النخيل في ولاية كاليفورنيا، وهي قليلة جدا إذا قورنت بأي منطقة زراعية في بلادنا، فلفت نظري وجود صالة عرض كبيرة داخل المزرعة يُشاهد فيها الزائر عرضاً جميلاً ومُنسقاً لجميع أنواع الأكلات والحلويات التي يكون التمر جزءاً منها. وكنت أود لو أننا نبذل الاهتمام نفسه بهذه الثروة الغذائية ونُحاول أن ننشئ أسواقاً عالمية تستوعب جُلَّ إنتاجنا. وأذكر في هذه المناسبة أنني قرأت خبراً في إحدى الصحف المحلية منذ عدة سنوات كان يتحدث عن مؤتمر عالمي عُقد في لندن حول موضوع تسويق التمر. وكان الطريف ـــ إن صح الخبر ـــ أن ما يزيد على 20 مندوباً لشركات إسرائيلية حضروا المؤتمر مقابل مندوبين يُمثلون شركتين من السعودية. وحسب علمنا أن فلسطين ليس فيها مزارع للنخل، إلا ربما في جنوب الأرض المحتلة وبكميات قليلة. بعد إعداد مادة هذا المقال، أرشدني صديق إلى موقع BATEEL، وهي مؤسسة حديثة تعتني بتصنيع التمور وتسويقها بطرق حديثة، ولها فروع كثيرة داخل المملكة وخارجها. http://www.bateelasia.com/index.asp، وفق الله القائمين عليها. وحسب ما يظهر من الموقع أنها من الممكن أن تكون نواة لمشاريع عديدة لتصنيع وتسويق التمور بطرق حديثة. وفيما نعتقد، أن أهم ما تحتاج إليه تلك المشاريع هو التسويق على مستوى العالم وبمفهوم علمي. ومما يلفت النظر خلال السنوات الأخيرة، الاهتمام غير العادي من قِبل البلديات في جميع مدن وقرى المملكة بزراعة أعداد كبيرة من شجر النخيل في الشوارع والميادين العامة كجزء من التجميل، وليس لغرض آخر. ومنظر أشجار النخيل وهي مصفوفة وبينها مسافات قصيرة يُعطي فعلاً مظهراً حضارياًّ جميلاً وظلالاً وارفة. ولكنهم أغفلوا عاملاً مُهماًّ كان بإمكانهم أن يتفادوه لتكمل الزِّينة، وهو اختيار الأنواع الطيبة من النخل ذات المذاق المقبول، بدلاً من التركيز فقط على المظهر. فتجد ثمر النخل الذي اختاروه يتناثر تحتها وما حولها دون أن يلقى أي اهتمام من أحد فيذهب هباءً. ولو أن المسؤولين في الشؤون البلدية اهتموا من الآن بزراعة أنواع مُختارة من شجر النخل الممتاز لأمكن استغلاله في إطعام الفقراء داخل المملكة وخارجها من قِبل المؤسسات الخيرية. وفي غضون فترة قصيرة تنمو أعداد هائلة من فسائل النخل الجيد يمكن غرسها لتحل محل النخل القديم ذي الجودة الرديئة الذي لا فائدة من استغلال ثمره. والمُتحدث عن المميزات الغذائية لثمر النخل يجب ألا يُغفل الفوائد الكثيرة من استغلال مُخلفات النخيل من ''الأعساب والليف والكَرَب والعذوق والسيقان بعد أن تهرم النخلة''. وقد كنا في الزمن الماضي، قبل الطفرات الاقتصادية الحديثة التي غيرت ملامح حياتنا، نستعين بكثير من تلك المخلفات في شؤوننا. فبعضها نستخدمه لإيقاد نار الطهي وأخرى لصنع الحبال، والجريد يُستخدم في سقوف المنازل المبنية من الطين. أما في وقتنا الحاضر فمن الممكن أن تُستغل معظم مخلفات شجر النخل في صناعة الورق وما شابه ذلك. ولكن العقبة الرئيسة التي تحول دون استغلال تلك المخلفات اقتصادياًّ هي الرفاهية الزائدة التي يعيشها قسم كبير من أبناء المجتمع الذين أصبحوا مستهلكين، ولكل شيء مستوردين، ويعتبرون جمع مُخلفات النخل من الأمور الهامشية التي لا تستحق اهتمامهم.
إنشرها