عائشة .. حتى لا يبكي حبيبٌ على حبيب (2 من 2)

.. كنا قبل سنتين نشطين في إرسال مرضى الفشل الكلوي إلى دولة الفلبين.
ولماذا الفلبين؟ أقول لكم..
لقلة المعروض من إتاحاتِ الأماكن للغسيل الدموي، كان الاتجاهُ سريعاً للحل الأخير والأبقى وهو ما يسميه الأطباء استزراع الكلى، بأخذ كلية سليمة إما من متبرع في حالة موتٍ دماغي، وإما من متبرعٍ حي .. وهناك ما يسمى الأخلاق الطبية، وهي أعراف مسَّتْ التبرعَ بالكلى، حيث أكدت أن يكون التبرع في حالة المتبرع الحي من أقارب الدرجة الأولى، منعا للمتاجرة بالكلى .. وإنّي من الناس الذين من الصعب أن يقتنعوا بذلك في حالة تعذر وجود الغسيل الكلوي، وعدم وجود، أو عدم مناسبة المتبرّع (عن طريق كشف معملي يسمى تطابق الأنسجة)، فهنا يكون الخيار الوحيد هو الموت .. إن كان هذا خيارا. لذا كان التفكيرُ وبالتنسيق مع بعض أطباء الكلى المتخصصين الذين يتفهمون هذا الرأيَ أن يتوجهوا للخارج وبصراحة تامة للدفع مقابل الكلى التي تعرض أصلا ومن ناس تستقيم حياتهم بشكل أفضل بعد أن يقدموا كلاهم. ولكن كانت هناك مشكلة.. والمشكلة كبيرة جداً.
عمد مرضى إلى الذهاب لبلدان بعينها في آسيا وفي إفريقيا وحتى في بعض دول أمريكا الجنوبية، ويستقبـَلون من سماسرة ويؤخذون لمستشفيات متواضعة وأطباء مغمورين، ورأيتُ بعيني عملياتٍ تجرى في بلد إسلامي آسيوي في غرف منازل، وعوضا عن قوارير السوائل المعقمة تستخدم قواريرُ المشروبات الغازية .. والنظافة متردية، فالأهم في عملية استزراع كلية ليس فقط العملية ذاتها بل ما بعد العملية من العزل والنظافة المطلقة وقياس عقاقير مخفضات المناعة، وهي معادلة قد تكون مميتة متى تم الإخلال في موازنتها، ورأيتُ جراحاً غير متخصّص وممرِّضَ غرفِ جراحةٍ يجريان العملية .. والسبب أن الأطباءَ الكبار المسجلين سيقاطعَون محليا ودوليا متى أخلوا بتلك الأعراف الأخلاقية في مسألة التبرع من غير الأقارب .. والنتيجة أن يعود كثير من المرضى بأمراض أشد فتكا..
في الفلبين الأمر مختلف، أو أنه كان يوما مختلفا. فقد كان من المتاح لكبار الأطباء إجراء هذه العمليات، وأعرف عن قرب منهم طبيبة متميزة عالميا ويستعان بها كبروفيسورة زائرة في أرقى كليات، ومدارس الطب في أمريكا وكندا تشرف على تلك العمليات وتجريها مع فريق أنموذجي، وفي أرقى مستشفيات الدولة، لأن النظامَ الفلبيني الطبي كان لا يمنع ذلك .. هذا الذي شجعنا لإرسال مرضى الفشل الكلوي إلى الفلبين، وبالفعل تعالج العشرات وعادوا معافين، وكل من أعرفهم عادوا سليمين وقادوا حياة طبيعية، وبعضهم في مناصب عليا، أو يديرون مؤسسات كبرى..
إلا عائشة..
عائشة كانت قد وصلت مانيلا بعد ثورة رأيٍ عام اصطنعها الإعلامُ هناك لمسبّباتٍ وأغراض، وظهر قرارٌ رئاسيٌ يوقف عملية تقديم الكلى من فلبينيين إلى أجانب ( وما زال مستمرا هناك تقديم الكلى من غير القريب متى كان من فلبيني إلى فلبيني آخر، وطبعا بعمليات مقايضة لا تخفى).. لذا لم يكن لعائشة فرصة لزرع كلية.
على أن الأمر لم يقف عند ذلك .. لم يكن ممكنا الاستمرار في الحصول على جلسات الغسيل الكلوي لعائشة فقد شح المال .. ثم تعسّر الغسيلُ نفسُه، ورأيت عائشة تذوي حتى وصل وزنها عشرين كيلو جراما.. ويوما بكينا، أبوها، وأخي، وأنا لأنها رفعت يديها الصغيرتين وأشارت إلينا، ثم سألناها: ماذا تريدين يا عائشة؟ فقالت بصوتٍ تخرجه كمن يزيحُ أثقالا: "أعلـَم، بدون الغسيل لن أعيش, أنا لستُ خائفة من الموت، أنا خائفة على هذا"، وأشارت بأصبعٍ مهزول لأبيها الذي وقع باكيا..
الغسيل الكلوي يكون أشد أهمية وضرورة من طوق النجاة الذي يرمى للغرقى في خضم اليم الهادر.. قد تسامِح المياه، قد تطفو الأجسام بفعل تغير الوزن النوعي والكثافة.. ولا ينتظر أبداً الدمُ الذي صار فاسدا، ثم يزداد فسادا بسموم يحملها إلى كل خلية حية ومعه نذر الموت..لا نقاش، لا انتظار لحلول، ولا مناظرة، ولا تـُهـَم، ولا لوم.. كلها من الممكن أن تأتي بعد الإنقاذ.. لا خيار إلا أن يكون إتاحة الغسيل الكلوي قبل كل ذلك، لأنه إنقاذ حياة.. وهل هناك أثمن من هذا في هذا الوجود؟!
إن حملة "كلانا" لا تعمل إلا لشيءٍ واحد.. هذا الشيء الواحد الذي لا نرى ثانيا يليه في اللحظة.. هو انتشالهم قبل هوة الموت.. ومن ينشغل بذلك لا سبب ولا مؤثر في الدنيا يشغله عن متابعة شغله.
لم يعد الإنقاذُ فرديا بالضرورة ولا صعبا، ولا مُرهقا، بمجرد رسالةٍ هاتفية، بتبرع صغير.. قد حتى لا تنتبه إليه، تكون قد عملت عملا لا يصل لمشارفه إنجازٌ آخر..
من أجلكِ يا عائشة الحبيبة، حتى لا يبكي حبيبٌ على حبيب!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي