وزير الزراعة يرى الأمن المائي قبل الأمن الغذائي

نعم سبقنا ملك الإنسانية في شتى الميادين, ذلك الرجل تعدت بصماته الإنسانية حدود البلاد, بل كشفت النقاب عن كثير من الأسباب كانت لغزاً عجز عنه كثير من الرجال والمسؤولين في بلورة المشكلات, بل ترددوا في حلها كي لا يكونوا طرفاً أو جزءاً من تلك المشكلة.
لا أستطيع أن أحصي إنجازات خادم الحرمين الشريفين, لكن أستطيع أن أذكر خبراً قرأته عن ذلك الملك العظيم في جريدة ''الاقتصادية'' بتاريخ الإثنين 24 جمادى الآخرة 1431هـ الموافق 7/6/2010 في العدد رقم 6083 باعتماد كرسي الملك عبد الله للأمن الغذائي, ومدى حرص ملك الإنسانية على ضرورة تحقيق الأمن الغذائي. مثل هذه الأخبار لا شك أسعدتني بإقبالها وإشراقها بالخير للمجتمع, وبلا شك أيضاً أسعدت كل من قرأ هذا الخبر من ناحية, وعلى وفاء وأمانة ملك الإنسانية لأمته الكريمة من ناحية أخرى, إلا أنني شعرت بإحباط كبير عندما قرأت بعدها تصريحا صحافيا لوزير الزراعة، معلناً أن الأمن المائي قبل الأمن الغذائي, وكأن الأمن الغذائي لا يعنيه في شيئ.
دعوة وزير الزراعة إلى الأمن المائي قبل الأمن الغذائي لا بد أنها كانت مبنية على أساس متين, ولا أعتقد أن الذي أعد التقرير لوزير الزراعة قد أغفل الدراسة التي أعدت من قبل ثلاثة عقود ماضية, التي أكدت أهمية زراعة القمح في تحقيق الأمن الغذائي, والتي أسفر عنها اعتماد مشروع زراعة القمح, وليس هذا فقط, بل توصل الدارسون المكلفون من قبل وزارعة الزراعة والمياه إلى الأسباب الحقيقية التي أدت إلى فشل زراعة القمح, التي تلخصت نتائجها في عدم الاستمرار في زراعة القمح لعدم ملاءمة زراعة القمح للبيئة التي نعيش فيها, وليس هذا فقط, بل إنها مكلفة للمال والمياه والجهد غير المحدود.
هذه هي الأسباب الرئيسة التي قتلت مفهوم زراعة القمح في المملكة, لكن هل سألنا أنفسنا عما إذا أعددنا بحوثا ودراسات تساعد على نجاح مشروع زراعة القمح؟ أو هل أخذنا بالأسباب التي تساعدنا على كيفية العمل بطريقة تساعد على تطوير مشروع زراعة القمح وتحويله من برنامج أمن غذائي إلى مشروع استثماري في الظاهر, وبالتالي يتحول تدريجياً إلى برنامج أمن غذائي, وهذا في الباطن, (وسيتم شرح هذه الفقرة لاحقاً).
لا أريد أن أكون منتقداً بقدر أن أكون موجهاً ومعلماً أخدم بلدي وحكومتي طالما أنني أعيش معها وأتمتع بأمنها وحبها لي. إنه حسب خبرتي, وكوني أحد رجالات الاقتصاد، يجب ألا نعرج على الأسباب التي أدت إلى فشل مشروع زراعة القمح فحسب, إنما يجب التطرق إلى كيفية دعم مشروع زراعة القمح والانتقال به من مرحلة الفشل إلى مرحلة النجاح, إضافة إلى ذكر بعض الأفكار التي تساعد على تحقيق الأمن الغذائي بأقل التكاليف والجهد.
عندما صدرت الموافقة على زراعة القمح هَم أصحاب المزارع في البدء في زراعة القمح, وكان دأبهم الوحيد على الزراعة بأي شكل من الأشكال وحصد المحصول وتوريده إلى المؤسسة العامة لصوامع الغلال دون التقيد بالضوابط والمعايير التي تعطي مواصفات محصول القمح المستورد نفسها, كانت هذه بداية المشكلة ومن ثم لحقتها مشكلة عدم قبول محصول القمح المورد من قبل المزارعين بسبب عدم علمهم بأن الهيئة العامة للصوامع الغلال تتقيد باستيراد القمح وفق مواصفات دقيقة لا يمكن أن تتوافر إلا من قبل دول متخصصة في زراعة القمح, وفي ذلك الوقت أيضاً لم تبد وزارة الزراعة أي متابعة أو تنسيق أو استعداد للتطوير أو الوقوف مع المزارعين وتدريبهم على كيفية زراعة محاصيل القمح, أو أقلها إطلاعهم على أي الأنواع والمواصفات من حبوب القمح المهجنة يجب أن تتوافر في سوق المستهلك.
إن زراعة القمح من المنتجات الجديدة على المزارعين, ولا سيما على المملكة أيضاً، ومن أجل أن يستطيع المزارع السعودي زراعة القمح فإن ذلك يحتاج إلى تدريب وتثقيف القائمين على مزارع القمح قبل الشروع في عملية الزراعة, كما أن ترك المزارع السعودي في مهب الريح وجُهٍله بالضوابط والشروط المطلوبة في محصول القمح والمحددة مسبقاً من قبل المؤسسة العامة لصوامع الغلال والدقيق, عليه كان رفض منتج محصول القمح من قبل المؤسسة العامة لصوامع الغلال نتيجة حتمية واجهها مزارعو القمح, وذلك لعدم مطابقتها للمواصفات المطلوبة, وحتى تاريخه لم يعلم المزارع السعودي ما المواصفات التي يجب أن تكون عليها حبات القمح المطلوبة, وحتى تاريخه أيضاً لم يعط المزارعون الطريقة للتوصل للمواصفات المطلوبة وكأن كلتا الجهتين (وزارة الزراعة والمؤسسة العامة لصوامع الغلال) لا تعلم أو تجهل الطريقة العلمية التي إذا اتبعها المزارعون سيتم التوصل إلى الصيغة النهائية لزراعة القمح وبالشكل المطلوب.
ثم بدأت مرحلة تشجيع المزارع على قبول محاصيلهم بمواصفاتها غير المشجعة ظناً من الجهات المختصة أن ذلك سيدفع المزارع إلى تحسين المنتج, إلا أن هذا الأسلوب دفع المزارعين إلى زيادة الإنتاج بطريقة أكثر عشوائية ومن ثم أوهمت المزارعين بعظم جودة محاصيلهم وأنها أكثر طلباً عليها من ذي قبل, وتدريجياً أصبحت الطاقة الاستيعابية للمخازن لا تستوعب المحصول المحلي والمستورد في آن واحد, ما فاقم الأمر على المؤسسة العامة لصوامع الغلال والدقيق وكانت نتيجتها التوقف الكامل عن استقبال الحصاد القمحي المحلي وعدم شراء محاصيل القمح المحلية ومن ثم إسدال الستار على مسرحية مشروع زراعة القمح في السعودية. هذا هو سيناريو فشل مشروع عظيم استبشر المجتمع السعودي بأهميته الكامنة في دعم الاقتصاد وكغطاء غذائي يكفل للمجتمع عيشاً ميسراً ابتداء من الحدود الدنيا للإشباع, وأن ندرة الثروة المائية في بلادنا ليس سبباً كافياً لإلغاء مشروع زراعة القمح.
قد أتفق كلياً على عدم ملاءمة بيئة المملكة لزراعة القمح في الوقت الراهن, لكن هذا لا يعني ترك مبدأ الاستثمار في هذا المجال, طالما كانت هناك دول أخرى تتوافق بيئتها الطبيعية مع زراعة مثل هذه المحاصيل, ولأن مفهوم الأمن الغذائي مفهوم حيوي، يجب ألا نربط مشروع زراعة القمح ببيئة الوطن الباحثة عن الأمن الغذائي, بل يمكن البحث عن بيئة مناسبة لدى جميع بقاع العالم تأسياً بالاستثمارات الأخرى التي قام بها مستثمرون محليون وأجانب لدى بلد الأجنبي وأعطيت لها أهمية كبيرة تفوق أهمية برنامج الأمن الغذائي.
قبل أن أختم مقالي هذا, ونظراً لأهمية موضوع الأمن الغذائي وجب علي التطرق إلى فكرة من جملة أفكار ربما تساعد المسؤولين ـــ من خلال المجتمع ـــ على تحقيق جزء من الأمن الغذائي بدلاً من شراسته وضراوته التي نشهدها في الوقت الحالي، حيث جاء في حديث شريف عن النبي محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ''يا عائشة بيت لا تمر فيه أهله جياع'' . كما كانت أيضاً لفاطمة ابنة الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ حديقة تعتني بها يومياً. هذا ما يعطي مدلولاً كافياً على ضرورة توظيف المجتمع إمكاناته في مجال الزراعة, بالتحديد زراعة أفنية منازلهم بالقدر المطلوب الذي يجعل لمنتجاتهم فائدة ليس على مستوى تحقيق المصدر الغذائي اليومي بل يتعدى الأمر إلى تحقيق نسبة مرتفعة من الأمن الغذائي والرقي والازدهار في اقتصاد الدولة نفسها في شتى جوانبها. إن الزراعة المنزلية يمكن أن تسهم في الحد من انتشار ظاهرة البطالة، سواء على مستوى ربات البيوت أو الشباب وكل أفراد الأسرة, بفضل هذه المشاريع يتحول عنصر الإنتاج البشري غير المنتج في المجتمع إلى عناصر فاعلة ومهمة في العملية الإنتاجية، حيث تتاح الفرصة لهم لاستغلال أوقاتهم في مشاريع مفيدة ونافعة, الأمر الذي يعود عليهم في النهاية بعديد من الفوائد الاقتصادية. ومن أهم فوائد هذه المشاريع بصفة عامة ترسيخ أهمية العمل كقيمة في حد ذاته, ومع الأسف الشديد, يشيع في المجتمعات الخليجية اعتقاد مفاده أنها شعوب لا تعمل، ولا يقبل الشباب بالمهن التي ربما تدر دخلا جيدا إذا كانت في مجال المهن اليدوية أو المهن ذات الطابع التجاري والخدمي، وفي هذين المشروعين نهدف إلى تغيير ثقافة العمل لدى الشباب في المملكة، فإن العمل مهما صغر وقل حجمه، فإنه يعد قيمة في حد ذاته.
إن من متطلبات زرع ثقافة العمل لدى الشباب، التأكيد على أن العمل عبادة, وأن أي مهنة محترمة ومصانة ولصاحبها كل التوقير والإجلال ما دامت تمنعه من الذلة والسؤال ومد اليد.
لذلك فإن هذه المشاريع, على سبيل المثال, تساعد على ترسيخ تلك القيم وتغذيتها، الأمر الذي يساعد على تنشئة جيل جديد يحب العمل لذاته مهما كان نوعه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي