المشهد الإقليمي .. معطيات معقدة ودور سعودي استثنائي
تأتي جولة خادم الحرمين الشريفين, التي تشمل: مصر, سورية, لبنان, والأردن, ضمن بيئة سياسية إقليمية متحركة ومتغيرة، لكنها تأتي في إطار فاعل ومؤثر وقدرة على إحداث تغيير إيجابي في المشهد السياسي العربي والإقليمي، ولعل هذا نابع من عدة عوامل أساسية جعلت السعودية دولة ناجحة في إدارة التوازنات والعلاقات السياسية الخارجية، وفقا لرؤية استراتيجية تعتمد العقلانية والشفافية والوضوح منهجا رئيسا ومفتاحا مهما لتعزيز فاعليتها السياسية.
وعليه, فإن الحضور السعودي ليس جديدا, إنما الحضور السعودي يكاد يسجل حالة عربية يشار إليها بالامتياز, كونها ترتبط بالدول العربية ليس بعلاقات سياسية واقتصادية وأمنية فقط, إنما تحظى بوزن اعتباري ومعنوي عربي وإسلامي فريد يتمازج ومنهجية قيادية واضحة وأصيلة في تعاملاتها العربية والإقليمية والعالمية, ما أكد أهمية الأخلاقيات السياسية بين الدول، ما أسهم فعلا في الإعلاء من مكانة المملكة وحضورها على المستوى العالمي.
المملكة دولة فاعلة ومؤثرة في الأمن الإقليمي والعالمي، رغم التركيب الفسيفسائي المعقد لدول الشرق الأوسط وتنوع نشأتها القومية وتباين أهميتها النسبية، إلا أن السعودية تبرز كواحدة من أكثر دول المنطقة أهمية استراتيجية، وأكثرها ديناميكية وحيوية، وتحظى سياساتها المحلية والخارجية بأهمية دولية وعالمية، تتعدى في كثير من الأحيان وفي أغلبية الحالات مخيلة المحللين والمراقبين للمشهد السعودي والعربي والشرق أوسطي، وينظر لحراكها السياسي بكثير من الاهتمام, لا بل يتم على أساسه قياس حركة الدول المشكلة للإقليم أيضا.
وبعد تفحص السياسة السعودية وعلاقاتها الدولية وتحليل أهدافها الاستراتيجية والدولية، وتبين أدواتها وطرائقها، فإن المحلل الموضوعي يعترف بالنجاحات المتواصلة على الصعيدين الداخلي والخارجي وفقا لتراكمات في التجربة والعلاقات والإنجازات، وانسجام هذا الحراك والمكون الثقافي والاجتماعي للدولة، وبراعتها في التنويع المبدع في إدارة السياسة الخارجية، وهي نجاحات لا شك تستند إلى اعتبارات موضوعية مستقرة وأخرى ذاتية متغيرة، يبرز من بينها وأكثرها أهمية الدور المتميز للقيادة والنخب السعودية في صياغة الأهداف واقتراح الأدوات والآليات للتعبير عن الإرادة العامة وتحقيق المصالح القومية العليا للدولة.
ضمن هذا السياق، تأتي جولة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في العالم العربي، كاستجابة طبيعية وفي توقيت مثالي لمعالجة ما يؤرق العالم العربي, وتلمس سبل الخروج من نفق الأزمات الاقتصادية والسياسية للدول العربية، وسعيا إلى تحقيق الاستقرار، وتوطيد التضامن العربي وآليات العمل العربي المشترك. ولا شك أن المحطات العربية التي اختارها خادم الحرمين الشريفين مقصدا للزيارة والتشاور والعمل المشترك، تمثل أولويات قصوى وروافع أساسية للتعامل والتفاعل مع المعطيات الاستراتيجية والسياسية في الشرق الأوسط.
لقد بات الآن في موضع الإجماع عند دارسي العلاقات الدولية والسياسة الخارجية, أن بيئة استراتيجية جديدة قد تشكلت ـ وما زالت في صيرورة مستمرة ـ في منطقة الشرق الأوسط. لقد أعادت أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 رسم خريطة العلاقات الدولية، بما فيها الشرق الأوسط، والأكثر أهمية أنها أظهرت الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في فهم العلاقات الدولية، وكيفية بناء السياسة الخارجية وتنفيذها، ناهيك عن الحاجة إلى ضرورة تطوير أدوات العمل والتحليل وتعريف المفاهيم الأساسية في علم السياسة. على رأس القائمة تأتي إعادة تعريف المصلحة الوطنية National Interest: Revisited، ومفهوم القوة Hard Power, Soft Power, والعدو والتهديد والحرب.
منذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز زمام القيادة الفعلية، أضاف حيوية وديناميكية متميزة للسياسة السعودية، انعكست بشكل واضح على الدورين الإقليمي والدولي للسعودية. وجولة الملك في المنطقة تأتي تتويجا لجهود المملكة المتواصلة في رأب الصدع العربي، وممارسة دور قيادي في المنطقة بغية تحقيق الاستقرار والنمو والسلام. وارتكزت سياسة خادم الحرمين الشريفين منذ عام 1995 (وليا للعهد في حينها) على دعامتين أساسيتين: الإصلاح والتحديث على مستوى السياسة المحلية، والاعتدال والتوازن في السياسة الخارجية.
لقد اكتسبت عمليات الإصلاح والتحديث في السعودية قوة دفع خاصة في ظل قيادته الحكيمة، الأمر الذي دفع المراقبين والمحللين, وعلى رأسهم عالم السياسة الأمريكـي Richard Dekmejian من جامعة جنوب كاليفورنيا، المختص في الشؤون السعودية, إلى وصف السياسات المحلية السعودية بالقفزة النوعية في مجال التحديث, خصوصا في مجال التعليم والحقوق المدنية والمبادرات الاقتصادية.
ولا يخفى أن جامعة الأميرة نورة وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا تمثلان روافع للتحديث والإصلاح والتغيير.
أما في مجال السياسة الخارجية, فقد تبنت السعودية سياسة خارجية طموحة تقوم على ثلاث ركائز: تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي، تعزيز التضامن العربي، وخدمة الإسلام. انسجاما مع هذه المحددات تنوعت أدوات السياسة الخارجية السعودية بحسب مقتضيات المرحلة ومتطلبات الأمن الوطني والإقليمي. وضمن هذا السياق طرحت السعودية مبادرة السلام العربية، التي شكلت نقطة انطلاق لجهود التسوية السلمية للقضية الفلسطينية والصراع العربي ـــ الإسرائيلي، كما مثلث موضع إجماع عربي كان غائبا فترة طويلة من الزمن، وأكدت أنها مبادرة استراتيجية قيد الإدارة الأمريكية وإسرائيل، بعد أن كان النظام السياسي العربي فاقد القدرة على مواجهة الإعلام الإسرائيلي وفي ظل تبدل ملامح القوة في المنطقة.
ضمن المنطق ذاته أيضا, كانت جهود السعودية وجهود خادم الحرمين الشريفين تحديدا في تحقيق المصالحة العربية في القمة العربية عام 2009 في الكويت, التي أشاعت أجواء من الثقة والتفاؤل العربي بإمكانية ممارسة الدول العربية دورا أكثر نضجا وتأثيرا في المنطقة.
يتفق الدارسون والمختصون في الشأن السعودي, على أن المملكة تشكل دولة محورية في الشرق الأوسط, ودولة قائدة في العالم العربي، والدولة ذات النفوذ الاستراتيجي والاقتصادي في العلاقات الدولية.
تتضافر مجموعة من العوامل لتبوؤ السعودية هذا الدور الفريد إقليميا وعالميا: فإضافة إلى الموقع الاستراتيجي، تشكل السعودية القلب للعالم الإسلامي بما تحتضنه من مقدسات وبما تمثله من منهج ونظام، وكونها من أكبر منتجي النفط في العالم, ونظرا لما يمثله النفط من قيمة استراتيجية في السياسة الدولية، حظيت السعودية بدور اللاعب الأساسي في السياسة الدولية، استطاعت من خلاله التأثير في صناعة القرار الدولي.
وليس مؤتمر حوار الأديان في الأمم المتحدة عام 2008 وعضوية السعودية في مجموعة العشرين (الدول الاقتصادية الكبرى في العالم), إلا نتاج هذا الدور, الذي يعكس أيضا ثقل المملكة على المستوى الدولي، الأمر الذي مكن السعودية من لعب دور قيادي ومؤثر في الشرق الأوسط. وعلى أعتاب جولة خادم الحرمين الشريفين العربية، يبدو المشهد السياسي في الشرق الأوسط أكثر تعقيدا، عصيا على الحل، معاندا لأي تأثير، متشابكا ومتداخلا على نحو يتطلب اجتراح سياسات وأفكار غير تقليدية، ربما تملك السعودية بعضا منها.
فالملف النووي الإيراني يدخل مرحلة التصعيد لا التهدئة، ويبدو أن الأطراف المختلفة غير قادرة على ترسيم الحد الأدنى المقبول لجميع الأطراف كأرضية مشتركة للتوافق والحل. تداعيات الملف النووي الإيراني والدور الإقليمي لإيران وامتدادها ونفوذها في الشرق الأوسط, تشكل تحديا, ليس للسعودية, إنما للعالم العربي, ما يستدعي مزيدا من التنسيق والتعاون, وهو ما تسعى إليه هذه الجولة الملكية.
أما على صعيد القضية الفلسطينية والصراع العربي ـــ الإسرائيلي، فإن الصورة تبدو أكثر قتامة, فإضافة إلى الانقسام الفلسطيني ـــ الفلسطيني واستمرار حصار غزة، وغياب أية بادرة للحل في الوقت المنظور، تسيطر على السياسة الإسرائيلية حكومة يمينية محافظة متشددة، لا يشكل لها السلام أولوية، عاجزة عن المبادرة أو قبول المبادرات، تزيد سياساتها على أرض الواقع من تأزيم الموقف ودفع المنطقة إلى حافة الهاوية.
في ظل هذه الأجواء يغدو ملحا أن تسعى الدول العربية إلى تعزيز التضامن العربي والتوافق على أولويات السياسة الخارجية, خصوصا في ظل فشل المفاوضات غير المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
يزيد من تعقيد الوضع القائم في الشرق الأوسط بروز الدور التركي والآثار المتناقضة المترتبة على دور كهذا, خصوصا ما يمثله من محاولات تهميش لدور قيادي عربي في القضية الفلسطينية والأمن الإقليمي، ومن هنا فإن جولة الملك, خصوصا محطته المصرية، تشكل تحديا جديا وفرصة مناسبة من أجل إنتاج وإنضاج دور قيادي عربي في المنطقة، ليس هناك من هو أكثر تأهيلا من السعودية لممارسته في هذه المرحلة بالذات.
وبالنظر إلى محطات الجولة السعودية الثلاث الأخرى، تتجلى أهمية الدور السعودي وحذاقة السياسة الخارجية السعودية, خصوصا في المحطة السورية, فسورية واحدة من قوى العمق العربي، وركيزة من ركائز العمل العربي المشترك، تتبنى سياسة خارجية مؤثرة، وتجمع المتناقضات, لكنها قد تفقد بعض اتزانها إن أخل الآخرون بهذا التوازن، خاصة أن سياسة القبض على المتناقضات كافة بيد واحدة, أمر بات ليس سهلا، لكن ومع ذلك, فإن اللقاء السعودي ـ السوري يمثل عاملا جوهريا وحاسما في أية توجهات إقليمية يمكن لأي من الدولتين تبنيها.
إن التشابك الدولي والإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وتداخل العامل الأمني بالسياسي والاقتصادي, يضيفان إلى تعقيد المشهد ويعمقان من الحاجة إلى دور عربي فاعل وإلى الدولة القائدة من أجل التعامل مع هذه المعطيات.