قراءة في تأثيرات الإعلام الاقتصادي في القطاع الخاص

يعتبر الإعلام الاقتصادي أهم فرع من فروع الإعلام، وهو الذي يقوم بنقل وتحليل وتفسير التغيرات الاقتصادية التي تحدث في المجتمع وتشمل الأفراد والأماكن والقضايا المتصلة بالاقتصاد، كما يشمل أيضا تغطية أداء الشركات ونشاطاته. تحت هذه المظلة الإعلامية الاقتصادية، يبذل الكتّاب الاقتصاديون جهودا كبيرة في البحث والتمحيص في ثنايا الأرقام والمناهج الاقتصادية لكثير من شركات ومؤسسات القطاع الخاص. ومن المؤسِف أن نجد المسؤولين في القطاع الخاص لا يثمّنون هذه الجهود، وهذه الرؤية التحليلية المستقلة التي تقوم بعكس أنظارهم إلى بعض الأمور والنتائج الجوهرية التي تتعلق باقتصاديات شركاتهم ومؤسساتهم. على العكس تماماً تؤخذ هذه المبادرات على أنها تُريد التشهير والنيل من مسيرة الشركات والمؤسسات الاقتصادية، وغالباً ما تجابه هذه الملاحظات المهمة بالصمت واللامبالاة، وكأنها لا تعنيهم وأن المراد بها تفسير حالة تحليلية ربما تكون قد غابت عن ناظريهم.
إن دور الصحافة الاقتصادية يتمحور في التركيز على الرؤية التحليلية غير المرئية للعوام ونقلها بأمانة مطلقة وشفافية مقصودة ترمي إلى بث التوعية لدى شرائح المجتمع بجميع فئاته، هذا بالإضافة إلى بيان مراكز القوة والضعف في الشركات والمؤسسات، ومعرفة الأسباب التي أدت إلى التقصير في الأداء والتحليل التفصيلي لما آلت إليه اجتماعات مجالس الإدارة لتلك الشركات وتبسيطها لتكون سهلة على فهم الشخص العادي، كذلك تذليل الصعوبات البيروقراطية والسلبيات التي تؤثر في مسيرة الإنتاج والتطوير في الشركات والمؤسسات وغيرها من الأمور التي تهم الحركة الاقتصادية المحيطة بالمجتمع. جميعنا يدرك أن الإعلام الاقتصادي لا يعرف المجاملة، لسبب بسيط وهو اعتماده على بناء الطروحات والمقالات على أساس أرقام وتحليلات يستنبط من خلالها الكاتب والباحث الاقتصادي الفكرة والفائدة التي من المفروض أن يستفيد منها المجتمع.
إلى أي مدى يتفاعل المجتمع السعودي مع الأخبار والمقالات والتحليلات الاقتصادية المطروحة من قِبل الإعلام الاقتصادي، وهل تؤخذ المعلومة من جانبها التأثيري أو من جانبها المعلوماتي فقط؟ لنر أعزائي القراء بعض التأثيرات المميزة لحالات آثارها الإعلام الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف عمِل الإعلام الاقتصادي على نشر الفائدة على المجتمع:
في عام 1991 وفي مدينة سانت جوزيه في ولاية كليفورنيا كانت مجموعة من طلبة الثانوية (الأفارقة الأمريكان) في رحلة مدرسية في هذه المدينة، بعد يوم حافل بزيارة معظم معالم المدينة، ذهبت المجموعة مع مدرسيهم إلى مطاعم دينيز Denny’s Restaurants المشهورة لتناول طعام العشاء. رفض مدير ذلك المطعم أن يقوم المطعم بخدمة هذه المجموعة إلا إذا تم دفع قيمة العشاء مقدماً، وذلك من منطلق التفرقة العنصرية ضد السود. أثارت الصحافة الاقتصادية هذا الموضوع في اليوم التالي، ما أثار حفيظة المجتمع وغضبه على الإدارة التنفيذية للمطاعم، بالتالي تم رفع قضية من قبل الرابطة الوطنية للنهوض بالشعب الملون National Association for the Advancement of Colored People NAACP ، ما اضطر إدارة المطاعم لتخصيص مبلغ مليار و200 مليون دولار للبرامج المساعدة على نشر الوعي فيما يخص التفرقة العنصرية التي كانت سائدة في تلك الفترة.
بداية من عام 1984 قامت شركة أي تي آند تي AT&T الضخمة بالاستحواذ على شركات أخرى متوسطة وكبيرة في مجال الحاسب الآلي والاتصالات، لم تنجح تلك الاستحواذات النجاح الاستراتيجي المرجو منها، حيث بدأت الشركة في مرحلة خسارات تشغيلية كبرى بداية من عام 1991، ما اضطر الرئيس التنفيذي إلى إعلان تسريح 8500 موظف من وظائفهم في عام 1995، وذلك كإجراء استراتيجي لوضع الشركة في المسار الصحيح. لعب الإعلام الاقتصادي دوراً رئيساً في نشر الوعي الصحيح للحاجة الاستراتيجية إلى ذلك القرار وفائدته على اقتصاد الشركة والمجتمع. حاولت الشركة استغلال وقوف ودعم الإعلام الاقتصادي لقرار التسريح واستغلاله لإعلان تسريح 40 ألف موظف خلال ثلاث سنوات بداية من عام 1996. عكس هذا القرار نظرة المحللين و الكتّاب الاقتصاديين في الإعلام الاقتصادي وقاموا بنشر النتائج السلبية لمثل ذلك القرار على المجتمع الأمريكي، ما اضطر إدارة الشركة إلى التراجع عن القرار واتخاذ إجراءات إصلاحية لتصحيح الصورة في وسائل الإعلام وأعين المجتمع، مما كلّفهم ملايين الدولارات.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا لا نتفاعل كمجتمع مع الأخبار والمقالات والطروحات الاقتصادية التي هي أساساً وجدت لما فيه لصالحنا؟ هل يوجد لدينا تاريخ ولو على المدى القريب عن حالات أثر فيها الإعلام الاقتصادي على القطاع الخاص، وبالتالي استفاد المجتمع من جراء ذلك؟ إن لم يوجد، إذاً ما الأسباب؟ قصور من الإعلام الاقتصادي أو تبلّد في المجتمع لعلمه المسبق بعدم جدوى تلك الأخبار والطروحات وأن القطاع يبقى الغالب في نهاية المطاف!!في رأيي الشخصي يلعب ضيق المساحة الحرة المتاحة للمحرر والكاتب والباحث دوراً رئيساً في نشوء تلك الحلقة المفرغة بين الإعلام الاقتصادي وشرائح المجتمع، والقطاع الخاص يعي جيداً وجود تلك المساحة الضيقة ولا يعطي أي اعتبار إلى مثل تلك الأخبار والطروحات. ماذا لو أعطي الإعلام الاقتصادي مساحة أوسع لوضع النقاط على الحروف فيما يخص اقتصاديات القطاع، هل سيكون هناك أي تغيير إيجابي على المجتمع؟ الله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي