خزائن الأرض .. والمسؤولية الأخلاقية

في كل مرة يثبت خادم الحرمين الشريفين لوطنه ولأمته أنه زعيم مختلف، لا تنتهي مسؤوليته بتحقيق الإنجاز تلو الإنجاز، ولا بتذليل المصاعب أمام أبناء شعبه ومواطنيه لضمان الحياة الحرة الكريمة لهم، وإنما تمتد إلى ما هو أكثر لتحاكي مستقبل الأجيال، وحقها في الرخاء والثروات.
في العاصمة الأمريكية واشنطن، وخلال لقائه - يحفظه الله - بأبنائه وبناته المبتعثين الذين يواصلون دراساتهم هناك، وفي كلمة من القلب إلى القلب دعاهم فيها إلى أن يظلوا سفراء لوطنهم، وأن يقدموا الصورة الطيبة عن بلادهم .. بعدما أكد لهم أن مسيرة التنمية تسير على أفضل وجه من أجل مستقبل أفضل، أشار - يحفظه الله - إلى أنه أمر بإيقاف عمليات التنقيب عن النفط .. طالبا أن تبقى خزائن الأرض في داخلها حفاظا على حقوق الأجيال القادمة ونصيبها في هذه الثروة.
هذه هي شخصية عبد الله بن عبد العزيز .. القائد الذي لا يرى حدود مسؤولياته في إطار الواقع القائم، وإنما يراها فيما هو أبعد .. عندما يحمل في قلبه وعقله همّ الأجيال القادمة، وينصفهم في غيابهم، وفق قاعدة أنه ليس من الحق أن تتمتع الأجيال القائمة الآن باستثمار الثروات، وتستنزفها على حساب مستقبل الأجيال اللاحقة، وهو ما عبّر عنه - يحفظه الله - بالدعوة له (أي النفط) بطول العمر .. ليمتد خيره إلى الأجيال جيلا بعد جيل.
هذه المسؤولية الأخلاقية التي تجسدت في هذا القرار حول حفظ حق الأجيال القادمة ونصيبها في الثروة .. لا يمكن أن تصدر إلا عن زعيم مختلف، لأن التاريخ سيضعها في الخانة التي تستحقها من التقدير وبعد الرؤية والإيثار والأمانة وكل المعاني الطيبة، في إقصاء واع سديد لعبارات أنانية مثل: (أنا ومن بعدي الطوفان) أو كما قال أحد الشعراء: (إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر) .
خادم الحرمين الشريفين الزعيم الذي حلقت زعامته بهذا الموقف وهذه العبارة التاريخية الماجدة لتذهب بعيدا إلى جيل الأحفاد وما بعدهم وما بعدهم .. يرفض بأمانته ونقاء ذمته أن تستحوذ بعض الأجيال على خزائن الأرض فقط لأن سياقات التاريخ جعلتها في مصادفة تفجر هذه الخزائن وظهورها على السطح كثروات قابلة للاستثمار، يرفض أن يذهب جيل واحد أو حتى بعض أجيال بالأجور والدثور، فيما لا تجد الأجيال اللاحقة إلا الآثار لثروات استنزفت، أولا لأنه اعتاد أن يستخدم ميزان العدل في كل المشاريع التي يتبناها .. وثانيا لأن رؤيته للأمور لم تكن ذات يوم رؤية آنية أو وقتية أو قصيرة المدى .. فهو الرجل الذي عوّدته الصحراء بامتدادات أفقها الواسع العريض على الرؤية للبعيد على الدوام .. ثم لأنه - يحفظه الله - لا يريد أن يدجج عهده بثمار تلك الخزائن، لأنه يرى مسؤوليته في الحفاظ على المسيرة الوطنية، وعلى بنائها، وحفظ خيراتها من أجل أن ينعم بها الجميع جيلا بعد جيل.
قليلون هم أولئك الذين يمتلكون مثل هذه الرؤية المتجاوزة، لأن الإنسان جبل على استعجال الخير، لكن القادة العظام الذين أبقاهم التاريخ في ذاكرته، ولم تستطع الأيام والدهور أن تطمس أو تمحو سجلاتهم الخالدة .. هم من تجاوزوا برؤاهم النافذة حدود الواقع، وتخلصوا بسمو فكرهم وبعيد نظرهم من الارتهان للحظة واليوم والساعة، ورسموا لأوطانهم على امتداد تاريخها الطويل أجمل وأنصع المسارات التي حلقت بها بين الأمم ومنحتها كل عناصر القوة والمجد، وهذا ما فعله ويفعله عبد الله بن عبد العزيز، وتجسد بكل أبعاده في الأمر بحفظ خزائن الأرض في باطنها كحق للأجيال التالية. لتجد نصيبها منها في قادم الأيام، لأنه ينظر إلى هذا الوطن وهذه الأمة على مساحة الزمن الطويلة لا على روزنامة اليوم واستحقاقاته وحسب، وهذا ما جعل منه القائد المختلف الذي ستدعو له كل الأجيال وتضعه في صميم ذاكرتها كأنبل زعيم تجاوز بأمانته الحدود ليصل بخير البلاد إلى من لم يأت بعد من أبنائها، وهذه هي قمة المسؤولية الأخلاقية التي تجعل كل مواطن يأمن على مستقبل أبنائه وأحفاده.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي