Author

تراجع الجامعات العربية .. الأسباب متعددة والحلول معلومة!

|
أظهرت التصنيفات العالمية العديدة، التي صدرت خلال العام الماضي والعام الحالي لأفضل الجامعات في العالم، احتلال الجامعات العربية مراتب متدنية في الترتيب العالمي، الأمر الذي يقدم دليلاً إضافياً على تراجع الجامعات العربية وتدني مستواها وانحسار دورها في المجتمعات العربية، بعدما كان لها دور ريادي في جميع الميادين: العلمية, الاجتماعية, السياسية, والثقافية, في معظم البلدان العربية منذ بداية القرن الـ 20 الماضي وصولاً إلى ربعه الأخير. في المقابل، ما زالت الجامعات الأمريكية، مثل هارفارد وييل ومعهد ماسا سوشيتس وسواها تحتل المراتب العشر الأولى في العالم، تليها الجامعات البريطانية كجامعة كامبريدج وجامعة أكسفورد وكلية لندن الملكية، ثم تأتي الجامعات السويسرية، كالمعهد الفيدرالي التقني العالي في زيورخ، ومعهد لوزان وجامعات جنيف وزيورخ وبازل ولوزان وبرن، تليها باقي الجامعات والمعاهد الأوروبية واليابانية والصينية، وذلك حسب التصنيف الذي أصدرته أخيرا صحيفة ''الغارديان'' في ملحقها عن التعليم العالي. ولم تختلف كثيراً نتائج التصنيف الذي أصدرته جامعة شنغهاي الصينية لعام 2009 لـ 100 الأوائل في الميدان الجامعي، وأشرف عليه باحثون جامعيون صينيون، ولم يدرجوا فيه اسم أي جامعة عربية. وقبل ذلك لم يرد سوى اسم جامعة الملك عبد العزيز في تصنيف أفضل 500 جامعة في العالم. الأسباب والمعوقات يرتكز العامل الأساسي لأفضلية الجامعة وترتيبها، في أغلبية التصنيفات العالمية، إلى قدرة الجامعة على إنتاج المعرفة ونشرها في المجتمع، إذ بقدر ما تسهم الجامعة في إنتاج المعرفة بقدر ما تحرز أفضل المراتب، نظراً لأن وظيفة الجامعة تتمحور حول إنتاج المعرفة، وتخريج نخب قيادية من أصحاب الكفاءة العلمية والعقلية والنفسية، التي تخولهم التفوق والنجاعة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية. لذلك علينا التساؤل عن الأسباب التي تقف في وجه جامعاتنا العربية من النهوض بوظيفتها، التي لا يحددها فقط تدني مخصصات التعليم والبحث العلمي، حيث لا تتجاوز ميزانية أضخم الجامعات في البلدان العربية 100 مليون دولار، باستثناء جامعة الملك سعود بن عبد العزيز، التي تصل إلى سبعة مليارات ريال سعودي، في حين أن ميزانية جامعة هارفارد الأمريكية مثلا تبلغ 35 مليار دولار سنوياً، بل إن العالم المصري، أحمد زويل، الحائز جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999، قال في أحد لقاءاته إن ميزانية الجامعة التي يعمل فيها تفوق ميزانية جميع الجامعات العربية. ولعل من الأسباب المهمة لتراجع الجامعات العربية نجده في عدم ربط الجامعة بالعملية الإنتاجية والاقتصاد الوطني، وتدخل السياسة في عمليات تعيين الأساتذة وترقيتهم حسب درجة الولاء للنظم الحاكمة، واستمرار نزيف هجرة العقول العربية إلى الخارج، وسيطرة الأجواء الطاردة للإبداع والكفاءات وتنمية القدرات، مع انخفاض دخول الأساتذة، وعدم تقدير صناع القرار العلم والعلماء. وإن كان ثمة سبيل لرفع مستوى الجامعات العربية، فإنه لن يخرج عن ضرورة إطلاق الحريات الأكاديمية، وإبعاد الجامعات عن السياسة والتسييس، وإدارة ملف الجامعات والمراكز البحثية بشكل أكاديمي وعلمي، مع زيادة الإنفاق على الجامعات والبحث العلمي، والاهتمام بالتعليم ما قبل الجامعي، وربط فلسفة التعليم بالمفهوم الشامل للتنمية الإنسانية، والمحافظة على الكفاءات والعقول العربية، إضافة إلى تحقيق استقلالية الجامعات مادياً وإدارياً، واعتماد ضوابط ومعايير واضحة للتعامل من الأكاديميين والطلبة، استناداً إلى الموضوعية والشفافية والقدرة والكفاءة. أزمة الجامعات العربية يصل عدد الجامعات العربية حالياً إلى أكثر من 240 جامعة، في حين كان عددها في ستينيات القرن الـ 20 الماضي 23 جامعة، وارتفع العدد إلى 33 جامعة في الثمانينيات. ويلاحظ أن مصر أكثر الدول العربية ثقلاً من حيث الجامعات ذات الأعداد الضخمة، تليها سورية فالمغرب والمملكة. كما زاد عدد طلاب التعليم العالي العربي 220 في المائة مقارنة بعددهم في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، لكن التوسع في هذا العدد يبدو منخفضاً، لأن معدله في الدول المتقدمة وصل إلى 250 في المائة. والزيادة في أعداد طلبة مرحلة الدراسات العليا في البلدان العربية لا تتجاوز 4 في المائة للماجستير و4.1 في المائة للدكتوراه مقارنة بنسبة 10 – 20 في المائة في الدول المتقدمة، وهو المستوى الكافي لتكوين رأس المال البشري. وتتجسد أزمة الجامعات العربية بشكل حقيقي وفاضح في علاقتها بسوق العمل، إذ منذ منتصف ثمانينيات القرن الـ 20 هبط أداء هذه المؤسسة وإنتاجيتها، واتسعت الفجوة بينها وبين التحديات المجتمعية المتزايدة، وأخفقت في تقديم الخدمات نفسها التي كانت تقدمها من قبل، وازدادت الشكوك في قدرتها على جذب القطاعين الصناعي والإنتاجي في المجتمع، فأصبحت تكلفة التعليم وجودته أهم أزمتين تواجهان المؤسسات التعليمية العربية، خاصة في ظل الاتجاه الداعي إلى رفع أيادي الحكومة عن التعليم العالي، نظراً لتأثير سياسات الإصلاح الاقتصادي وسيادة مبدأ الربحية واسترداد التكلفة. من جهة أخرى، شهدت جامعات العالم، منذ سنوات عديدة، تحولاً في وظيفة الجامعة، من نقل المعرفة إلى صنعها، ومن تدريس العلم إلى إنتاجه، في حين أن الجامعات العربية، بشكل عام، باتت تواجه صعوبات كثيرة في عملية نقل العلم والمعرفة. وتتجسد هذه الصعوبات في غياب الحرية الأكاديمية وسطوة جميع أنواع الرقابة، فضلاً عن أزمة المناهج وطرائق التدريس والمدرسين والتجهيزات والمناخ الجامعي العام, فالكادر التدريسي أصيب، في معظمه، بمرض تدني المستوى العلمي، حيث عزف عن متابعة التطورات العلمية والمعرفية، نظراً لعوامل موضوعية، تتجسد في ضآلة فرص المتابعة، وتدني المكانة الاجتماعية والضغط المعيشي الذي يضعف كثيراً دوافع تحسين القدرة العلمية. وتشكو المناهج الجامعية، على العموم، من تأخرها عن أحدث المعارف العلمية في البلدان المتقدمة، ومن تدني مستوى التأليف في جامعاتنا، وغياب مجلات علمية محترمة له دور مهم في هذا المجال. ويميل مركز ثقل العملية التعليمية في الجامعة إلى مصلحة التلقين لا التجريب، والنظري لا العملي، بسبب ضعف التجهيزات وتقادمها، وتدني مستوى المخابر، ونقص المساعدين المخبريين الأكفاء، وضخامة عدد الطلاب قياساً بمستوى التجهيز المتاح، وضعف مستوى الأكثرية الساحقة من الطلاب في اللغات الأجنبية. وفي هذا السياق يفضي نقص عدد الحواسيب وصعوبات الاتصال بشبكة الإنترنت وغلاء أسعار الاشتراك فيها إلى ضعف البحث العلمي، نظراً للدور بالغ الأهمية الذي تنهض به شبكة الإنترنت. ومع الأسف، لم تعد جامعاتنا مواطن للعلم والمعرفة والفكر الحر، بسبب القيود والمعوقات وعدم تخصيص موارد ووقت وجهد ومؤسسات مستقلة جديدة. ولا يمكن توقع أن تنهض الجامعة بوظيفتها العلمية والمعرفية والمدنية إن لم توفر لها الظروف المناسبة، وهذا ما يسهم في انفصال النشاط الاقتصادي عن العلم، وابتعاده عنه، والنتيجة هي تدني مستوى الرأس المال البشري. وتتجلى أزمة الجامعة في عدة ظواهر، منها ما بات يُعرف بظاهرة سلطة المدرجات، حيث يقوم الأستاذ بجمع طلابه في المدرج، ويلقي عليهم محاضرته العصماء، غير القابلة للحوار والنقاش، ولا يتقبل ملقيها أي نقد أو اعتراض، ويمنع الأسئلة. وهذه السلطة تجعل المعرفة أحادية، ومنغلقة على صاحبها، وتقتل علاقة التفاعل بين الأستاذ والطالب، وتدعم نهج التلقين والقضاء على البحث والتعصي، وتحجم العلم والمعرفة، وتؤسس لسلطة أخرى هي سلطة المقرر الجامعي، حيث يتحول المقرر إلى أداة لتحجيم العلم والعقل العلمي، وتثبط من همة الأستاذ والطالب في الوقت نفسه، وتحدّ من قدراتهما. وفي أغلبية الكليات يتحول المقرر إلى ملخص هزيل، يباع في الأسواق، ويحبل بالسرقات العلمية. مشكلة البحث العلمي يتطلب قيام بحث علمي، ذي معنى وفائدة، قدرة فكرية إبداعية، ومناخاً أكاديمياً عاماً، ملائماً لنمو واستمرارية البحث العلمي. وتعاني جامعاتنا عجزا شديدا في توفير هذين الشرطين، إذ على الرغم من ازدياد عدد الجامعات، والسماح بإنشاء جامعات خاصة، فإن الجامعة لم تعد مصدراً أساسياً لنقل المعرفة وإنتاجها، الأمر الذي ألحق ضرراً كبيراً بالتعليم الجامعي، وبالتالي بالبحث العلمي. وتتفرّع مشكلة البحث العلمي إلى فرعين، الأول يخص الأكاديميين من أساتذة ومدرسين، والآخر يخص الطلبة. وتتلخص المشكلة الأولى، التي تخص الأكاديميين، في وجود جملة الإجراءات البعيدة عن البحث العلمي، ويصطدم بها الأستاذ الجامعي حين يعتزم إجراء بحث علمي، وتصل إلى حد يحول دون المشاركة في الفعاليات العلمية، وإلى انحسار معرفي وسوء مواكبة للتطور العلمي. إضافة إلى ذلك توجد آلية وصولية في هذا المجال تفضي إلى سد حاجة ماسة من أجل الترفيع بالمراتب، الأمر الذي حوّل البحث العلمي إلى مناسبة مالية يكسب صاحبها فائض المهمة الخارجية, وتحول عند البعض الآخر إلى مناسبة لرحلات استجمام وترفيه. أما مشكلة البحث عند الطلبة، فإنه في ظل تزايد أعداد الطلاب وتراجع فاعلية التعليم العالي تكاد الجامعة تتحول إلى مكتب لإصدار شهادة لا تضمن لصاحبها مستقبلاً مضموناً، حيث إن نسبة البطالة تصل أحياناً إلى أكثر من 35 في المائة بين الخريجين الجامعيين. غير أن الأهم من كل ذلك هو أن الجامعات العربية تعاني غياب منظومة فاعلة للبحث العلمي، وضمورا في المراكز البحثية التخصصية، الأمر الذي أدى إلى ترهل رأس المال البشري. وتأتي هنا ضرورة تخليص الجامعة من سطوة ووصاية السلطة السياسية يشكل نقطة الانطلاق الأولى لتحقيق استقلال الجامعة، أي يمهد الطريق كي تصبح الجامعة مؤسسة علمية أكاديمية، وأن تتفرغ لإنتاج المعرفة العلمية وتطويرها وتزويد المجتمع بالكوادر الفنية المتخصصة، وأن تتفرغ للإبداع والبحث العلمي والفكري وتطوير المعرفة. ويمكن إجمال المشكلات والتحديات التي تهدد منظومة البحث العلمي في تسرب الأطر العلمية من الجامعات والمؤسسات العلمية، وقلة عدد الباحثين المتفرغين بسبب عدم الفصل بين الوظيفة التدريسية والوظيفة البحثية في الجامعات، وقلة عدد طلبة الدراسات العليا الذين يتدربون على البحث العلمي للاستفادة منهم، بوصفهم قوة عاملة نشطة في مشاريع البحث العلمي، والنزعة الفردية في إجراء البحوث وندرة تكوين فرق بحثية متكاملة، إلى جانب ضعف الإنفاق على البحث العلمي كنسبة من الناتج الوطني إذ لا يتجاوز ما تنفقه سورية، مثلاً، على البحث العلمي ما نسبته 0,18 في المائة من ناتجها الوطني، في حين تراوح النسب في البلدان المتقدمة بين 2.5 في المائة و5 في المائة، حيث يأتي 89 في المائة من هذا الإنفاق من مصادر حكومية، فيما تسهم القطاعات الإنتاجية والخدمية بنحو 3 في المائة فقط، ما يدل على غياب الوعي المجتمعي بضرورة دعم العلم والعلماء في بلداننا. إضافة إلى أن البحوث التطبيقية والعملية لا تحظى بدرجة الاهتمام نفسها التي تحظى بها البحوث النظرية، ما يعكس مشكلاً مهما في واقع البحث العلمي. ويمكن ملاحظة المستويات المنخفضة من المشاركة والاستثمار من قبل القطاعات الصناعية في البلدان العربية، وكذلك نقص استثمار القطاع الخاص في البحث العلمي، وغياب الدعم الخاص بالقطاعات والبرامج المختلفة ذات الأولوية كالزراعة مثلاً. وعليه فإن واقع البحث العلمي في الجامعات ضعيف وغير موجه نحو معالجة مشكلات البلدان العربية، إذ تعد معظم الأبحاث التي يجريها أعضاء هيئة التدريس الذين يشكلون حيزاً كبيراً من العاملين في حقل البحث العلمي لغايات استكمال إجراءات الترقية الأكاديمية، وبالتالي فهي لا تسخر لخدمة أغراض تنموية ولا تتواءم مع الخطط التنموية الوطنية. كما أن مساهمة طلبة الدراسات العليا في تطوير البحث العلمي محدودة، ومقتصرة على الحصول على الشهادة العليا، دون وجود أي آلية للمتابعة أو التفرغ للبحث العلمي، الأمر الذي ينعكس على مستوى الخريجين في أدائهم البحثي كماً ونوعاً. ويتمثل التحدي الكبير أمام الجامعات العربية في قدرتها على توجيه التعليم إلى مضمار البحث العلمي وربط مجالاته مع مشكلات المجتمع والدولة.  الحرية الأكاديمية يكفل ضمان الدور الأكاديمي والبحثي احترام حقوق الأكاديميين، ويوفر لهم المناخ الملائم لممارسة حريتهم في إنتاج المعرفة العلمية، ولن تتحقق الحريات الأكاديمية والفكرية ما لم يحدث تقدم محسوس في طريق الإصلاح، الذي يحقق المواطنة ويضمن حقوق المواطنين في المشاركة، وضمان الحياة الكريمة للأكاديميين، وحمايتهم من اللهاث خلف مصادر الرزق خارج الجامعة وداخلها، وتحرير العملية التعليمية من الأساليب التقليدية التلقينية، وإطلاق حرية البحث العلمي من خلال توفير الإمكانات المادية، وتفرغ الباحثين، وخلق المناخ العلمي البعيد عن جميع أنواع الرقابة، وتشجيع المبادرات الخلاقة المبدعة، وتحرير الحركة الطلابية من القيود الأمنية، وتركها تنظم أمورها بكل شفافية واختيار ممثليها دون ضغوط أو تهديد. تاريخياً، ومع تشكل الجامعات العربية، كان هاجس المجمع الأكاديمي هو موضوع استقلال الجامعة، الذي يحمل في مضمونه معاني ومقاصد الحرية الأكاديمية، باعتبار الحرية الأكاديمية هي القيمة النهائية لمنظومة واستمرارية الحريات الجامعية. وعلى الرغم من أهمية الحرية الأكاديمية وضرورتها لتنمية المعارف والبحث العلمي، من خلال تدعيم الأكاديميات بحق حرية الاتصال، ونقل المعارف الجديدة حتى لو كانت تختلف مع المعتقدات السائدة في المجتمع، وعلى الرغم من أنها تعد أيضاً من أساسيات الديمقراطية، فهي ليست حرية مطلقة، لأن لها حدودا، ويجب أن تحترم فيها أهداف المؤسسة التعليمية أو البحثية وقيم المجتمع وأهدافه.
إنشرها