الأسباب الحقيقية لتعثر المشاريع الحكومية!

كثر الكلام في الآونة الأخيرة حول أسباب تعثر المشاريع الحكومية، وعدم تحقيق الكثير منها الأهداف التي أنشئت من أجلها، وغالباً يأخذ مفهوم التعثر، المقصود هنا، إحدى صور التعثر الآتي بيانها:
1- التوقف الكامل أثناء التنفيذ، وعدم إتمام المشروع.
2- تأخر إنهاء المشروع، واستغراق تنفيذه مدة تتجاوز مدته الأصلية بالضعف.
3- سوء التنفيذ، المتمثل في اختلاف جودة ومواصفات ما ينفذ عما يرد في الشروط والمواصفات.
4- عدم الاستفادة من المشروع بعد إتمامه بسبب نقص أعمال رئيسة فيه لا يمكن استخدامه من دونها.
5- اختفاء بعض المشروعات وعدم ظهورها، أو تحويلها إلى أعمال أخرى.
6- الفساد الذي قد يصاحب المشروع من ألفه إلى يائه.
ويستطيع المتابع الدقيق أن يقول إن ما لا يقل عن نصف المشاريع الحكومية يتعثر لسبب أو أكثر من الأسباب المشار إليها، وأنه ليس ثمة مشروع واحد انتهى العمل فيه في وقته المحدد!..، دون وجود ملاحظات عليه!.
بل إن الصورة القريبة، التي رسمتها كارثة سيول جدة الأخيرة، تعد أبلغ اختبار وتصوير لحالة المشاريع الحكومية، ما انتهى منها وما لم ينته!..
هذه المقدمة رأيت أنها لازمة لتبيان ما سوف أتحدث عنه كمحاولة للتعرف على الأسباب الحقيقية للوضع الذي تشكو منه المشاريع الحكومية، بعد أن خاض فيه من خاض، ولم يتجاوز مرحلة المخاض، أي ليس ثمة من غاص في الأسباب وحللها وأبرزها، ووضع الحلول لها، برؤية منصفة، بعيداً عن العاطفة والتحامل والتنظير، وهو ما سوف أحاول الالتزام به، ما وسعني الأمر، متكئاً على معايشة موضوعية لتطبيق نظام المنافسات الحكومية، خلال عدة عقود، وما يصاحب التنفيذ عادة من عوائق ومشكلات..

الخلل يبدأ من المخططات
وأقصد بذلك أنه قبل طلب اعتماد المشروع وإدراجه في الميزانية، لا بد أن تقوم الجهة التابع لها بإعداد مواصفاته الفنية، ومخططاته الهندسية، وشروطه التنفيذية، وتحديد تكلفته التقديرية، بما في ذلك تحديد مدة تنفيذه، وعند ما لا يعهد بذلك إلى جهة تملك القدرة والكفاءة الفنية، فإن الخلل سوف يتسلل إلى المشروع من نافذة أو أكثر من هذه النوافذ ... ولنأخذ مثلا المخططات، فعندما لا يراعى فيها أن تفي بمتطلبات المشروع كاملة، وليكن مبنى مدرسة، (في أصغر الحالات)، أو مطارا، (في أكبر الحالات)، فإن المشروع سوف يتعرض للتوقف من أجل تعديل المخططات، ومن ثم تعديل التكاليف، وما يستغرقه ذلك من وقت لأخذ الموافقات ... وما يقال عن ذلك يمكن أن يقال عن المواصفات الفنية، فقد يتبين للجهة صاحبة المشروع، أثناء التنفيذ، أن شيئاً ما استجد في المواصفات الفنية، أو المواد، وتريد إحداث بعض التغيير فيها، فينشأ بينها وبين المقاول خلاف حول مدى أحقيتها في ذلك، وما يتبعه من مطالبة بزيادة قيمة العقد بحيث يسهم ذلك في إحداث تغييرات في المشروع تؤدي إلى زيادة مدته، وهذا يحدث كثيراً لطول الفترة التي تفصل بين إعداد المخططات واعتماد المشروع، ولكي أدلل، أضرب مثلاً بأوامر التغيير التي تصدر للمقاول أثناء التنفيذ، والتي لا تكاد تحصى بالنسبة لبعض المشاريع!..
والخلاصة، بالنسبة لهذا العامل، وحل الإشكالات التي تحدث بسببه، فإنه لو بذلت عناية أكثر وأدق للمرحلة الأولى للمشروع، وهي مرحلة إعداد المخططات والمواصفات الفنية، لقلل هذا كثيرا من تعرض المشروع للتوقف، ولأسهم ذلك في الانتفاع بالمشروع في وقته!..

الاختلاف بين عرض المقاول واعتماد المشروع
غالباً ما يحصل أن العرض المقدم في المنافسة للمشروع، الحائز على القبول، تكون قيمته أعلى من الاعتماد المخصص للمشروع، وفي هذه الحالة لا يمكن ترسية المشروع لعدم تغطية الاعتماد للتكاليف، وقد يوعز للجهة، أو توعز هي لنفسها، بالاستغناء عن بعض عناصر المشروع، لكي تتوافق قيمته مع قيمة الاعتماد، كأن تستغني عن عنصر الأثاث، أو تسوية الموقع، أو طرق التوصيل، أو التزويد بالكهرباء، وبما أن هذه كلها عناصر مهمة ولازمة للمشروع، ولا يمكن الاستفادة منه من دونها، حتى لو انتهى، فإن ذلك يؤدي إلى تعطل الاستفادة من المشروع، خاصة إذا تأخر اعتماد تكلفة الأعمال التي استبعدت لظروف الميزانية، كما حصل بالنسبة لبعض المشاريع!..
والحل لهذا العامل في نظري، هو أن يقتصر الاستبعاد على عناصر لا تعطل الاستفادة من المشروع، بعد انتهائه، أو أن يتأخر التعاقد عليه لسنة أخرى، تكون فيها ظروف الميزانية أفضل، لأن تأخير البدء فيه أفضل من هجره بعد انتهاء العمل فيه!..
تنفيذ المشروعات من الباطن
كثيرا ما يتم التنازل عن المشروع من قبل مقاوله الأصلي إلى مقاول آخر، سواء تم ذلك بموافقة الجهة صاحبة المشروع، أو في الخفاء، دون موافقتها، وفي كلتا الحالتين يقوم المقاول الأصلي باقتطاع نسبة من قيمة العقد لصالحه، وكأنه يبيعه بربح لغيره، ويستمر المقاول الأصلي ظاهراً في الصورة أمام الجهة الحكومية، بحيث يستمر صرف المستخلصات باسمه، وقد تتكرر عملية التنازل من مقاول إلى آخر، وكل يقتطع نصيبه من الكعكة، حتى لا يبقى فيها ما يمكّن المقاول الأخير من تنفيذ المشروع بالمستوى المطلوب من الجودة، فيحاول المقاول الالتفاف على المواصفات، واستبدال المواد بأقل منها، من أجل التوفير، خاصة في غياب الإشراف الفني المباشر من قبل الجهة ذاتها، أو من قبل من تكل إليه أمر الإشراف، وبالترتيب معه، أي مع المشرف، بحيث لا يعدم المقاول، ضعيف الذمة، وسيلة يرمي بها المشروع في كبد الجهة!..، والخلل هنا يأتي من أن نظام المنافسات والمشتريات الحكومية أعطى للجهة الحكومية، من خلال نص المادة (71)، صلاحية مطلقة في السماح بتنفيذ العقد من الباطن بمجرد إصدار إذن خطي، حيث تقول المادة (ينفذ المقاول العمل بنفسه، ولا يجوز له التنازل عنه، أو جزء منه، أو إنابة غيره في تنفيذه، بغير إذن خطي سابق من الجهة المتعاقدة)، وهنا تكمن المشكلة، لسهولة صدور الإذن الخطي، حتى ممن لا يملك الصلاحية في ذلك، وهي صلاحية الترسية!..
ولسد هذه الفجوة الكبيرة التي تهدم بسببها المشاريع، وتهدر بسببها الأموال، ينبغي إعادة النظر في مقتضى المادة المشار إليها، بحيث يمنع التنازل عن المشروع بالكامل، كلياً، حتى بإذن الجهة، على اعتبار أن المقاول الذي تقدم للمنافسة والتزم بشروطها، وهو المصنف في مستوى المشروع، هو الملتزم بتنفيذه، وهو وحده الذي حاز القبول دون غيره، وليس من المقبول، من ثم، أن يتم التنازل لمقاول لم يدخل دائرة المنافسة، ولم يحز المؤهلات الفنية، والقدرة المالية، على أن يبقى التنازل محصوراً في السماح للمقاول، بعد موافقة الجهة، بإعطاء جزء من المشروع، كالأعمال الكهربائية، أو التكييف، أو أعمال الرخام، لمقاول متخصص في ذلك الجزء، بشرط التخصص وتوافر المقدرة الفنية، وذلك لأنه لا يوجد مقاول واحد يستطيع تنفيذ أعمال المشروع كافة بنفسه.
وفي المقال القادم نتابع.
والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي