الطاقة النووية والطاقة المتجددة ضرورة قصوى للمملكة

صدور الأمر الكريم من لدن خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ بإنشاء مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة, يؤكد الرؤية الثاقبة للقيادة الحكيمة في معرفة مدى حاجة المملكة المستقبلية إلى بدائل مستدامة للطاقة النفطية. ولا شك أن توفير الطاقة للأجيال المقبلة يعد أمانة في أعناق هذا الجيل، ويجب أن نسعى إليه بكل قوة, حيث لا تقل أهمية تأمين الطاقة عن الأمن الغذائي أو الأمن الاجتماعي أو الأمن السياسي. عند نضوب الثروة الأساسية, وهي النفط, فلا يمكن في ذلك الحين البحث عن مصادر أخرى للطاقة واستيرادها من الغرب أو الشرق، لأن القوة الاقتصادية للمملكة ستتغير بطبيعة الحال عما هي عليه الآن.
إن المملكة يجب أن تعمل بشكل جاد وحازم للبحث عن مصادر دائمة ومستدامة للطاقة لمرحلة ما بعد البترول والغاز الطبيعي. كما هو معلوم أن جزءا كبيرا من البترول والغاز الطبيعي يستهلك محليا في توليد الطاقة الكهربائية، وكذلك في محطات تحلية مياه البحر لإنتاج المياه الصالحة للشرب. ولا شك أن هذه الثروة البترولية مقبلة على النضوب في مدة لا تتعدى 70 عاما إذا لم تعمل دول العالم، ومنها المملكة، نحو الحد من استهلاك البترول كمصدر أساسي للطاقة. الثروة البترولية والغازية ينبغي أن توجه لإنتاج المواد البتروكيماوية والبلاستيكية وغيرهما من الصناعات, ويجب التقليل بقدر الإمكان من استخدامها كوقود لمحطات توليد الكهرباء ومحطات تحلية المياه أو للسيارات والحاجات المنزلية. ولذلك، فإن إيجاد مصادر أخرى لتوليد الطاقة سيساعد ـ بإذن الله تعالى ـ على زيادة العمر الافتراضي للبترول والغاز الطبيعي حتى يتم استخدامهما فقط في الصناعات البترولية والتحويلية. ولوحظ في السنوات الأخيرة زيادة مطردة في إنتاج البترول في المملكة نظرا لحاجة السوق العالمية إلى ذلك، حيث إن تعداد السكان العالمي ازداد بشكل كبير في العقود الأخيرة, ما جعل الحاجة ملحة إلى زيادة إنتاج النفط واستهلاكه كوقود لتوليد الطاقة وكمادة خام في الصناعات البتروكيماوية. كذلك لوحظ أن الاستهلاك المحلي للبترول والغاز الطبيعي ازداد في السنوات الأخيرة، نظرا لزيادة محطات توليد الكهرباء ومحطات تحلية مياه البحر. كما أن زيادة أعداد المركبات وغيرها من وسائل النقل وكذلك تشييد الطرق وصناعة مواد البناء وغيرها تَطلبَ بناءَ مزيد من مصافي البترول, التي بدورها تستهلك جزءا كبيرا من الثروة البترولية للمملكة.
إنه من الممكن ـ بإذن الله تعالى ـ إطالة العمر الافتراضي للثروة البترولية والغازية, وذلك بتقليص استهلاك النفط والغاز الطبيعي كمصادر أساسية للطاقة، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق أولا: استخدام تقنيات ووسائل حديثة تحد من استهلاك الوقود في محطات توليد الكهرباء ومحطات تحلية مياه البحر, وكذلك تطوير مركبات ووسائل نقل وأجهزة منزلية تقلل من استهلاك البترول كوقود. ثانيا: إيجاد مصادر أخرى للطاقة النفطية والغازية كالطاقة النووية والطاقة الشمسية وغيرهما من المصادر، وهذا ما ستسعى إليه مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة.
وقد بدأ العمل في المملكة في التقليل من الطاقة المستهلكة في محطات تحلية المياه المالحة, وذلك بتقليص عدد محطات التبخير الوميضي Multi-Stage Flash وزيادة إنشاء المحطات المعتمدة على تقنية الأغشية بالتناضح العكسي Reverse Osmosis أو تقنية التقطير المتعدد التأثير Multi-Effect Distillation، حيث أعلنت المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة في أحد تقاريرها السنوية أن المرحلة الثالثة لمحطة تحلية مدينة جدة سيستخدم فيها تقنية التناضح العكسي، بينما هناك أربعة مواقع في المملكة منها حقل والوجه والخفجي ستستخدم فيها تقنية التقطير المتعدد التأثير. وهذه التقنيات تقلل من استهلاك الوقود في إنتاج الماء، لكن في المقابل، فإن محطات التبخير الوميضي لها خاصية توليد الكهرباء وهذا لا يتوافر في التقنيات الأخرى، كما لا يمكن للتقنيات الأخرى إنتاج كميات كبيرة من الماء كما هو الحال بالنسبة لمحطات التبخير الوميضي.
لذا فإن العمل على إيجاد بديل للبترول والغاز الطبيعي اللازم لتوليد الطاقة مطلب ضروري. وقد بدأ البحث الجاد في ذلك من قبل جامعات المملكة للوقوف على إمكانية استخدام الطاقة الشمسية بدلا من الوقود الأحفوري لتحلية مياه الشرب. فعلى سبيل المثال، فإن جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية قامت بدعم عدد من المراكز البحثية العالمية في أمريكا وأوروبا وغيرها لدراسة كيفية الاستفادة من الطاقة الشمسية في المملكة في تحلية المياه المالحة. كما دعمت جامعة الملك سعود أبحاثا في هذا المجال، منها بحثان مشتركان مع جامعة نانيانج لتحلية المياه المالحة بتقنيات حديثة عن طريق استخدام الطاقة الشمسية. وشُكل فريقان متخصصان من جامعة الملك سعود وجامعة نانيانج للتكنولوجيا في سنغافورة لتقديم نتائج دقيقة في غضون سنتين عن مدى نجاح الطاقة الشمسية لإحلالها كمصدر للطاقة في تحلية المياه المالحة. ومن المعلوم أن دولة سنغافورة تواجه المشكلة نفسها التي تواجهها المملكة من شح المياه ونقصها, لكن المملكة تتميز عن سنغافورة بقوة الشمس وتوافرها على مدار السنة, وهي نعمة من الله ـ تعالى ـ يجب على الباحثين أن يجدوا الوسائل الناجعة لاستغلالها كمصدر للطاقة المستدامة. وينبغي التنويه هنا على الإشكالية التي تواجه استخدام الطاقة الشمسية في الوقت الحاضر، وهي قلة كفاءة الخلايا الشمسية, حيث لا تتعدى 12 في المائة، ما يحتم استخدام مساحات شاسعة من الأرض لنشر تلك الخلايا لتوليد الطاقة, لكن يمكن زيادة كفاءة الخلايا الشمسية بالأبحاث المتعمقة كاستخدام مواد النانو في تصنيعها.
ولعل المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة تقوم بدراسة إمكانية تطبيق تقنيات أخرى في مجال التحلية، أثبتت جدواها, ويمكن أن تقلل من استهلاك الطاقة اللازمة مثل تقنية الأغشية بالتناضح الأمامي Forward Osmosis أو تقنية الأغشية مع التقطير Membrane Distillation. ويمكن تغذية تلك المحطات بالطاقة الشمسية بدلا من الطاقة المتولدة من البترول. وتم الإعلان أخيرا أن محطة الخفجي, التي ستنتج 30 ألف متر مكعب يوميا, ستستخدم الطاقة الشمسية في المستقبل القريب. ولا شك أن هذه خطوة عظيمة لإحلال الطاقة الشمسية بدلا من الطاقة البترولية.
وبدأ العالم بشكل فاعل في استخدام الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء، فهناك مشاريع تقام في اليابان وأمريكا وإسبانيا لاستخدام الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء، كما أن هناك شراكة مستقبلية بين ألمانيا والجزائر لتصدير الكهرباء من الجزائر إلى ألمانيا عبر الكيابل، حيث ستولد الكهرباء من الطاقة الشمسية في الجزائر بتقنية ألمانية. كما أن المغرب ستقيم أكبر محطة لتوليد الكهرباء معتمدة على الطاقة الشمسية، وستصل طاقتها إلى 500 ميغاوات, ويخطط المغرب لبناء خمس محطات لتوليد نحو 38 في المائة من احتياجات البلاد من الكهرباء بحلول عام 2020.
ربما يبدو أن استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء هو الحل الأمثل للمملكة, فالمملكة تحتاج إلى كميات كبيرة من الكهرباء في المستقبل ولا يمكن للبترول أو الغاز الطبيعي أن يفيا بذلك إلا في حالة زيادة الإنتاج بشكل كبير, ما يؤدي في النهاية إلى نضوب هذه الثروة على المدى القصير. لذلك يجب أن تتخذ المملكة الخطوات اللازمة لتوليد الكهرباء من الطاقة النووية أو الطاقة الشمسية في خلال السنوات العشر المقبلة. غير أن الطاقة النووية هي الأقرب للتطبيق لكفاءتها العالية، مقارنة بمصادر الطاقة الأخرى, لكن ينبغي اتخاذ أكبر قدر من احتياطات السلامة حتى لا تتكرر حادثة تشيرنوبل, وذلك بجعل المفاعل النووي في ترسانة تحت الأرض لمنع تسرب أي إشعاع نووي ـ لا قدر الله. وسبقت الإمارات دول الخليج في مجال استخدام الطاقة النووية، وبدأت فعليا في مرحلة التصميم مع إحدى الشركات الكورية لإقامة أول محطة كهرباء تعمل بالطاقة النووية في أبو ظبي، وتشرف عليها مؤسسة الإمارات للطاقة النووية.
إن المملكة قد تصبح الدولة الأولى في منطقة الشرق الأوسط في استخدام الطاقة المتجددة والمستدامة، كما هي الأولى اليوم في احتياطات النفط وإنتاجه، ولذا فإن مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة ستحظى بدعم قوي من قبل الدولة للوصول إلى أهدافها التي أنشئت من أجلها. ويبدو ذلك من تسميتها مدينة وليس مؤسسة أو هيئة، وكذلك من تعيين وزير ليرأسها ونائب له برتبة وزير.
لكن مقياس نجاح هذه المدينة العلمية سيتحدد مستقبلا بالإنجازات التي ستقدمها للدولة وللمجتمع والنجاحات المتميزة التي ستعلنها في مجال الطاقة الذرية والمتجددة. كما أن مدينة الملك عبد الله للطاقة عليها أن تحرص على دعم الأبحاث النوعية ذات التطبيقات الفعلية في مجال الطاقة، فالأبحاث النظرية التي تنتهي بوضع التقارير على الرف ينبغي ألا تدعم ولا تشجع، وفي المقابل، فإن الأبحاث التي ستؤتي ثمارها، وتنتقل من معامل البحث والدراسة إلى المصانع للتنفيذ والتطبيق فهي حرية بالمساندة والدعمين المالي والمعنوي.
إن البحث في مجال الطاقة النووية داخل الجامعات يبدو قائما على القياسات للمواد المشعة وطرق الوقاية من الإشعاعات وغيرها, لكن البحث في مجال تصميم المفاعلات النووية يبدو محدودا أو منعدما، نظرا لحساسية الموضوع ولعدم وجود الكفاءات في هذا المجال. ولذلك، فإن التركيز يجب أن ينصب بشكل رئيس على الطاقة المتجددة والمستدامة، فالمجال في ذلك خصب وكبير. ويمكن لمدينة الملك عبد الله للطاقة استحداث مشاريع تطبيقية في استخدامات الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية في مجال تحلية المياه وتوليد الكهرباء. كما يمكن كذلك استخدام الطاقة المتجددة لتوليد الوقود الهيدروجيني أو الوقود الحيوي, فالهيدروجين يمكن إنتاجه من الماء بتقنيات خلايا الوقود واستخدام الشمس كمصدر للطاقة، وهذا الهيدروجين يمكن أن يحل محل الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء وكوقود للسيارات وغيرها.
إن مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة سيقاس نجاحها بنوعية الابتكارات والاختراعات التي ستنتج من تحت عباءتها .. وليس بالتقنيات الجاهزة التي ستستورد من الشرق أو الغرب.

* أستاذ الهندسة الكيماوية في جامعة الملك سعود وعضو الجمعية السعودية للهندسة الكيماوية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي