اليونان .. رجل أوروبا المريض

الوحدة النقدية التزام تعاقدي تتخلى بموجبه الدول المتعاقدة عن سلطتها النقدية لمصلحة سلطة مركزية موحدة. الاقتصاديات الأضعف في هذه الوحدة هي الأكثر حاجة إليه والأقل قدرة على تحمل تبعاته، والاقتصاديات الأقوى هي الأقل حاجة إليه والأكثر قدرة على تحمل تبعاته. ولذلك فإن اتحاداً نقدياً يضم الأقوياء والضعفاء معا هو بالضرورة اتحاد غير منسجم وبالتالي فهو أكثر عرضة للهزات. وهذا هو وضع دول منطقة اليورو. لا يشكل الاقتصاد اليوناني أكثر من 2.5 في المائة من مجمل الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد الأوروبي لعام 2009 (240 مليار يورو) ومع ذلك فقد امتدت آثار أزمة ديون اليونان إلى سائر دول أوروبا تقريبا. ولذلك جملة أسباب. أولا، أن الحكومة اليونانية أخفت الحجم الحقيقي لديونها ولفترة طويلة. وثانيا، أن نسبة ديون الحكومة اليونانية إلى ناتجها المحلي الإجمالي هي 115 في المائة. وهي نسبة تفوق بكثير نسبة الـ 60 في المائة التي تنص عليها شروط الوحدة النقدية الأوروبية. وتبلغ هذه الديون 300 مليار يورو حتى الآن. كما تبلغ نسبة العجز في ميزانية اليونان إلى ناتجها المحلي الإجمالي 12.7 في المائة، ( قياسا إلى 3 في المائة حسب شروط الوحدة النقدية الأوروبية) وقد أعطت هذه الحقائق التصرفات اليونانية طابع الفضيحة، خاصة، وهذا هو السبب الثالث، أن الاقتصاد العالمي، ومنه الأوروبي، قد تكلف كثيرا لمعالجة أزمة مالية شديدة لما تتعافى منها هذه الاقتصاديات بعد، ولا يعرف على وجه اليقين متى وكيف ستنتهي هذه الأزمة. ومما زاد الأمور ضغثا على أبالة، إعلان وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني يوم الثلاثاء الماضي تخفيض التصنيف الائتماني لليونان والبرتغال فقد صنفت السندات الحكومية اليونانية على أنها ''سندات قمامة'' (Junk Bonds). حدث هذا بالرغم من الإعلان عن برنامج قروض مشترك (35 مليار يورو) من قبل دول اليورو وصندوق النقد الدولي، يقدم الصندوق ثلثها وتقدم أوروبا الثلثين.هذا البرنامج مقرون بشرط قيام اليونان بإجراءات تقشف قاسية. وقد أدى إعلان وكالة ستاندرد آند بورز المشار إليه إلي انخفاض مؤشرات كثير من الأسواق المالية في أوروبا وخارجها. وهذا يعني أن لدى الأسواق المالية شكا كبيرا في قدرة اليونان مستقبلا على سداد ديونها, ليست المشكلة التي تواجهها اليونان وأي دولة في مثل وضعها هي القدرة على سداد الديون وحسب، فهذا قد يحصل جزئيا باتباع الإجراءات التقشفية المطلوبة، ولكن المشكلة أيضاً أن القدرة على سداد الديون تعتمد بصورة أكبر على القدرة على تنشيط وتوسيع القدرة الإنتاجية للاقتصاد. ولما كان حل المشكلة الأولى يعتمد إلى حد كبير على حل الثانية، فإن أولويات رجال السياسة والاقتصاد في منظومة الوحدة النقدية الأوروبية تبدو معكوسة تماماً! ولذلك فإن المبالغة الشديدة في شد الأحزمة يمكن أن تؤدي إلى هصر المريض وإضعافه أكثر من ذي قبل. لقد دعا بعض الاقتصاديين إلى إعطاء اليونان ''إجازة'' من اليورو والسماح لها مؤقتاً باتباع سياسة نقدية مستقلة من أجل تخفيض ''عملتها'' (أي عودة اليونان لاستخدام الدراخما). ولكن شيئا من هذا حاصل بمجرد انخفاض اليورو نتيجة الوضع السيئ لاقتصاد اليونان. وربما يكمن الفارق في أن اليونان ربما تتخذ قراراً بتخفيض ''عملتها'' الخاصة بها بقدر أكبر مما انخفض به سعر صرف اليورو مقابل العملات الأخرى. ومن الطريف أنه كلما كانت علائق اليونان الاقتصادية أشد ارتباطا بأخواتها داخل منظومة اليورو اشتدت حاجتها للانعتاق من هذه المنظومة. وذلك أن انخفاض اليورو أمام العملات الأخرى يمكن أن يفيد دول منطقة اليورو ككل، بما فيها اليونان، تجاه الدول الأخرى خارج المنطقة. ولكن انخفاض اليورو لا يفيد أياً من دول اليورو تجاه بعضها بعضا.
ولذلك فإن تحسين الموقف التنافسي لاقتصاد اليونان يحتم إعطاء اليونان هذه ''الإجازة''. ولكن هذه ''الإجازة'' لو حدثت ستكون ذات عقابيل سياسية واقتصادية يمكن أن توجه ضربة قاسية لفكرة الوحدة النقدية الأوروبية بالذات ولأي وحدة نقدية في أي مكان في العالم. إذ قد يطالب أكثر من مريض في المستقبل بفترة نقاهة مماثلة. وقد يخرج المرضى دون أن يعودوا أبداً! كما أن التنفيذ العملي لخروج أي دولة من الاتحاد النقدي لن يكون سهلاً فهذا قد تتطلب عكس كثير من الإجراءات التي أدت إلى دخول ذلك الاتحاد!
وإذا كان تخفيض العملة أحد الحلول الضرورية في مثل هذه الحالات، إلا أن من الخطأ المبالغة في إعطائها أهمية أكثر مما تستحق، وذلك لأن استعادة الاقتصاد لعافيته يتطلب حزمة متنوعة من الإجراءات الداخلية. وفي الوقت الذي تطالب فيه بقية دول اليورو اليونان بإجراءات تقشفية كبيرة فإن عليها أن تقدم لها مع الدعم المالي فترة سماح طويلة قبل إلزامها بالسداد. كما أنه لا مفر من مسامحة اليونان عن بعض هذه الديون. ''وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون''،
ومما يزيد الأمور صعوبة أن ميثاق الوحدة النقدية الأوروبية يحظر على الاتحاد كاتحاد، كما يحظر على البنك المركزي الأوروبي أن يهبا لمساعدة أي دولة تعاني مصاعب اقتصادية. ولذلك فإن حزمة المساعدات التي ستقدمها دول أوروبا إلى اليونان وإن كانت نتيجة جهد منسق بين هذه الدول، إلا أنها تقوم على أساس الإرادة المنفردة لكل دولة. ويبدو لي أنه في الوقت الذي تعامل فيه الأوروبيون مع موضوع الوحدة الأوروبية بعامة بشكل عاطفي، من ناحية محاولة إدخال كل دول أوروبا تحت المظلة نفسها، إلا أن شروط الانضمام لهذه الوحدة وآليات عملها كانت متشددة بشكل مبالغ فيه جداً. ولعل أوضح مؤشر لذلك هو أن معدل البطالة في أوروبا كان حول العشرة في المائة ولسنوات طويلة قبل انفجار الأزمة المالية العالمية. لا بل يبدو أن ميثاق الوحدة النقدية الأوروبية لا يتضمن آليات واضحة للتعامل مع الظروف الطارئة. ولذلك فإنه ليس من المستبعد أنه حالما تستقر الأمور بعض الشيء، أن تبدأ دول اليورو نقاشا حول هذه الآليات. وسيكون من الضروري إعطاء البنك المركزي الأوروبي دوراً أكبر في أي عمليات إنقاذ في مثل هذه الظروف. وإذا حدث ذلك فسيقوم البنك المركزي الأوروبي بشراء السندات الحكومية لدوله التي أضيرت من أزمة كهذه. وإذا حدث ذلك فإن التضخم قد يكون ثمنا يدفعه الجميع، لا مفر منه، للخروج من هذه الأزمة. ويبدو لي أن علاجا كهذا سيكون أسرع أثرا وأقل ضررا علي اليونان، لا بل وعلى أخواتها الأوروبيات أيضا، من علاج يقوم أساسا علي إجراءات تقشف قاسية جدا! على أن القروض وضمانات القروض وإن كانتا ضروريتين لمساعدة اليونان على تجاوز أزمتها، إلا أنها ليست الطريقة الوحيدة لتلك المساعدة، إذ ربما ينبغي لدول أوروبا النظر في إعطاء اليونان معاملة تفضيلية في أي مبادلات أو مشاريع اقتصادية داخل دول الاتحاد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي