قتل زراعة القمح دون وجود دراسة!

استهلاك المياه تضاعف أربع مرات منذ صدر قرار إيقاف زراعة القمح (''الاقتصادية'' 5997)، مع العلم، أن قرار إيقاف زراعة القمح كان هدفه ترشيد استهلاك المياه، لكننا قمنا بإصدار قرار نتج عنه تضاعف الاستهلاك أربعة أضعاف. عندما تكون القرارات غير مبنية على دراسة وافية بشكل كامل طبيعي ينتج عنها نتائج غير مقصودة - ربما تكون معاكسة. عندما صدر قرار إيقاف زراعة القمح لم يصدر معه قرار آخر يقول للمزارعين أين يذهبون؛ ولأنه لا يوجد لديهم مكان آخر يذهبون إليه بعد أن استقر بهم المقام في قطاع الزراعة لعقود من الزمن، بحثوا عن بدائل زراعية أخرى ووجدوها حتى إن كانت تتناقض مع جوهر قرار منع زراعة القمح. أبجدية اقتصادية/فيزيائية لا تحتاج إلى إسهاب. إن قرار إيقاف زراعة القمح يرتكز بشكل مفصلي على قضية الماء، فهدفه الحد من استهلاك المياه الجوفية, لكن هل فعلا حقق الهدف؟ أعتقد أنه من المناسب مراجعة ما المربع الأول في القضية لتحديد الوجهة، والمربع الأول في تقديري: هل يوجد فقر مائي يستوجب إيقاف زراعة القمح وغيره من المحاصيل الزراعية أم لا؟ بمعنى آخر، هل نعاني - أو حتى في المنظور القريب - سنعاني شحا في الماء كي نعمل منذ اليوم لتجنب كارثة مائية متحققة، بما في ذلك قتل القطاع الزراعي، أم أننا نبالغ في تصور القضية؟ هناك فريقان يتجاذبان القضية:
فريق التفاؤل الذي ينكر فرضية الفقر المائي، ويدافع عن القطاع الزراعي الذي أنفقت عليه الدولة أكثر من 40 مليارا لمدة تزيد على 30 سنة، وترعرع في جنباته فوائد اجتماعية وأمنية وديموغرافية علاوة على العوائد الاقتصادية، ويدعي أنه لا توجد إحصائيات معلنة عن حجم الماء في المملكة تستوجب الذعر، ويستدلون كذلك باستمرار مستويات المياه في الآبار الجوفية المحفورة بطرق فنية سليمة, التي لم تتغير منذ 40 سنة في حرض وتبوك والمناطق الزراعية المشهورة، وإن وجد فهو في مناطق تعتمد على المياه السطحية التي لا تعتبر معيارا فنيا صحيحا يمكن الاعتماد عليه. وهناك آبار اختبارية منثورة في أماكن متعددة من المملكة وضعت خصيصا لأجل قياس مستويات الماء في تلك المناطق ولم تسفر نتائج تلك الآبار الاختبارية عن أي نتائج تستدعي القلق، فما كان يحدث هو انحسار طفيف في أوقات المواسم سرعان ما يعود طبيعيا بعد انتهاء موسم القمح (ثلاثة أشهر- على عكس الأعلاف المستمرة على مدار السنة). وعليه، فهذا الفريق يملك حجة قوية تبرر ـ على أضعف الإيمان- استمرار دعم صغار مزارعي القمح.
فريق التشاؤم على الطرف الآخر يكرر مقولة أن الماء سلعة استراتيجية أهم من أي سلعة أخرى وأن هناك استنزافا مائيا خطيرا يجفف منابع المياه في المملكة بشكل سيؤدي لا محالة إلى كارثة، ولمنع هذه الكارثة فالفوائد التي نتجت من القطاع الزراعي لا تبرر العواقب الوخيمة التي ستتحقق لو استمرت المملكة في نهجها الزراعي. ويستدلون على هذا بانحسار المياه في بعض العيون والآبار، وهي حجة وإن كانت ذات دلالة إلا أنها ترتكز فقط على المياه السطحية غير المؤثرة في اتخاذ قرار جوهري بخطورة إيقاف القطاع الزراعي، فالنتائج الوخيمة من استنزاف الماء لا تبرر رعاية صغار المزارعين. ومشكلة هؤلاء هي مشكلة تحدث في كل بلدان العالم والدولة لن تدعهم هباء منثورا.
ولأن حديث الأرقام يطيب لي - على وعورته - سأورد بعض الأرقام لنتعرف على المشكلة بشكل أوضح. يورد المشرف على كرسي بحث مجموعة الزامل لترشيد الكهرباء والماء في جامعة الملك سعود - من حوار معه في صحيفة ''الرياض'' (5 مارس 2009)- الدكتور عبد المحسن آل الشيخ الحقائق التالية:
مصادر المياه العذبة في المملكة هي:
1. مياه الأمطار وتقدر كميتها السنوية بنحو 127 مليار متر مكعب.
2. المياه السطحية وتقدر كميتها السنوية بنحو 2.2 مليار متر مكعب.
3. المياه الجوفية ويقدر مخزونها بنحو 2000 مليار متر مكعب.
ثم –وهو الأهم- يمضي ويقول إن ''معدل الاستهلاك الكلي للمياه نحو 24 مليار متر مكعب سنويا''، موزعة على النحو التالي:
1. القطاع الزراعي يستهلك 21 مليارا سنويا.
2. القطاع الصناعي يستهلك 0.7 مليار سنويا.
3. القطاع المدني يستهلك 2.4 مليار سنويا.
بحسبة رياضية بسيطة: إذا كانت مياه الأمطار تقدر سنويا بما يعادل 127 مليار متر واستهلاكنا الكلي للمياه- زراعي، صناعي، مدني - يعادل تقريبا 24 مليارا، فمياه الأمطار السنوية أكثر من احتياجنا المائي كله بما يقارب خمسة أضعاف، وعليه فتطوير تقنيات للاستفادة فقط من ربع مياه الأمطار-فقط ربعها - كاف لتغذية شرايين المملكة بالماء على جميع الأصعدة. إضافة إلى هذا، لو كانت الزراعة تستهلك 21 مليار متر مكعب من المياه سنويا ولدينا مياه جوفية تبلغ 2000 مليار متر مكعب, فهذا يعني أن لدينا مياها تكفي القطاع الزراعي لمدة 100 سنة، علما أن معدل تغذية المياه الجوفية هو 2.2 مليار متر مكعب سنويا، أي بعد 100 سنة من استهلاكنا المياه التي في حوزتنا، سيتشكل لدينا 220 مليار متر مكعب ماء جديدة.
كل هذا دون الخوض في تحلية مياه البحر غير الناضبة أبدا التي توفر اليوم 50 في المائة من الاستهلاك المدني. ورغم تضارب الإحصائيات، فهناك دراسة قديمة مصدرها المؤسسة العامة لتحلية المياه ـ وفقا لمصدر موثوق - تقول إن تكلفة مياه البحر المحلاة أرخص 30 إلى 50 في المائة من تكلفة المياه الجوفية, وعليه فمياه البحر تعد أيضا مخزونا استراتيجيا يستدعي فقط تطوير التقنيات وتكثيف البحث في مجالاته الواسعة لتذليل الطريق للاستفادة منها (وليس ما يحدث الآن، حيث إن نصف مياه إحدى محطات التحلية يعاد رميها في البحر لعدم وجود أنابيب كافية أو صالحة لنقل الماء!).
الأرقام المنشورة إلى اليوم توحي بشيء يعاكس ما يقول به فريق التشاؤم، وهذا دون الخوض- أيضا - في الفوائد الأخرى المترتبة على الزراعة (فرص عمل، دوائر أمنية على المدن، عوائد اقتصادية...). ويزيد من عدم معقولية طرح فريق التشاؤم أن الجهات الحكومية المعنية بالمياه لا تملك إلى اليوم أي إحصائية تستطيع أن تقدمها للجمهور بكل ثقة لإقناعهم بسلامة نهجهم. بل لقد وعد وكيل وزارة المياه والكهرباء لشؤون المياه الدكتور علي بن سعد الطخيس بإخراج دراسات جيولوجية وهيدرولوجية دقيقة قادمـة وتُغطي جميع مناطق المملكة للخروج بنتائج علمية تعطينا صورة واضحة لمستقبل المياه في المملكة خلال ثلاث سنوات, وكان هذا الوعد في تاريخ 22/11/2006 ، وفقا لصحيفة ''اليوم'' المنشورة في ذلك التاريخ (الذي ذكر بالمناسبة نصا أنه لا يوجد عجز مائي في المملكة وأن ''مصادر المياه غنيـة في المناطق الوسطى والشرقية والشمالية''). واليوم نحن في منتصف عام 2010 ـ أي أربع سنوات منذ وعد الوكيل - ولم تخرج الدراسة الوافية!
أسألكم بالله كيف يمكن أن نقضي على زراعة القمح دون وجود دراسة تعطينا صورة واضحة لمستقبل المياه في المملكة؟ ماذا حدث للآبار الاختبارية الموزعة في مختلف أنحاء المملكة - لماذا لا نعرف نتائجها؟ أكثر من مليون مواطن يعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على القطاع الزراعي تم خنقهم دون وجود دراسة وحيدة تبرر الاتكاء على ذلك. لا أكتب هنا بحثا عن تبرير للمزارع التي لا حدود لها - بارك الله لملاكها - بل أكتب استمطارا لعطفكم على بيوت عمودها زراعة القمح .. فهل نكسره؟ باختصار، سيقنع الجميع إخراج دراسة من الجهات الحكومية تبرر ما يحدث على الساحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي