Author

جودة الخدمة الصحية وحق المريض في سلامة جسده وعقله

|
ترتكز الخدمات الصحية لأفراد المجتمع على توافر مكونات الخدمة المكانية والتسهيلات والقوى البشرية, وعناصر الفريق الصحي - والأدوات التشخيصية والعلاجية والوسائل الوقائية - وذلك للوفاء بمتطلبات رعاية المريض وتحصيل عافيته. وفي جميع أوجه الخدمات الصحية، تمثل الجوانب العقدية والمهنية والأخلاقية أحجار الزاوية في الممارسة الصحية, حيث تجويد الخدمة وسلامة المريض في الرعاية الصحية من أهم واجبات الطب والطبابة منذ القدم وعلى مر العصور. وفي العصر الحديث, ومع تطور المعارف والعلوم والتقنيات في مجالات الصحة, تطورت خدمات الطب والطبابة ـ وقاية ورعاية وتأهيلا ـ وتعددت فروعها وتنوعت تخصصاتها وطرق ووسائل الخدمة الصحية ضمن أطر مهنية وأخلاقية وفي ظلال عادات مرعية في المجتمع, حيث يسمح القانون للطبيب بالكشف الجسدي والتدخل الجراحي واقتطاع أجزاء وأعضاء من جسم المريض مع أنه من المعروف أن القانون يمنع أذية أي فرد, لكن ''المظلة'' هنا هي ''الالتزام بالضوابط العقدية والمهنية والأخلاقيات الطبية, وترجيح المنفعة على الضرر''. كما أن للطبيب وصف الأدوية للمريض, وهو قد يصف علاجاً مخدراً, لكن لا يمكن للسلطة المختصة ملاحقته بحجة التحريض على تعاطي المخدرات.. والغطاء هنا ''الالتزام بالأخلاقيات الطبية, والضوابط المهنية ومقتضياتها''. كما أصبح المجتمع ومؤسساته تنظر إلى الطب والطبابة كعلم وفن ـ علم يكتسب, وممارسة مهنية تضبطها قواعد عقدية وأخلاقية, وتتناغم مع العادات المرعية في المجتمع, وتتطلب مقتضياتها تجويد الرعاية الطبية في جميع مكوناتها (المكانية والتسهيلات والفريق الصحي), وتنظيم علاقة الطبيب بالمريض والمريض بالطبيب, وحفظ حقوق المريض من جهة والفريق الصحي من جهة أخرى. وتخضع مزاولة المهنة الطبية في العصر الحديث لشرط فني هو إكمال متطلبات التعليم والتدريب والتخرج بنجاح في كلية الطب, وشرط مسلكي هو الحصول على ترخيص لمزاولة المهنة من السلطة المختصة, إلى جانب إخضاع ممارسة المهنة الطبية لضوابط عقدية ومهنية وأخلاقية ودلائل إرشادية لمقدم الخدمة والمستفيد منها. وللحفاظ عليها أُدرجت في برامج تعليم ''مهنة الطب والطبابة'' مقررات آداب الطب وتشريعاته في الدراسة الجامعية الأساسية, حيث يلتزم الطبيب بست قواعد, هي: ''العمل على جلب الفائدة للمريض والإحسان إليه والرأفة به, عدم الإيذاء, احترام استقلالية المريض وضمان مشاركته في القرار الصحي, العدالة في تقديم الخدمة للجميع, المحافظة على أسرار المريض التي يُفضي بها إلى الطبيب, والمسؤولية المهنية الطبية''. على أن كل ما تم, ويتم اتخاذه من دواعي مراعاة الدقة في الممارسة المهنية في المجال الطبي، وحرص على الالتزام بأخلاقيات وآدابه المهنية في تقديم الخدمة الصحية على الوجه المطلوب, فإن الطب والطبابة تبقى ممارسة بشرية تحدث فيها أخطاء وأحداث سلبية غير مرغوب فيها. يحتوى تعريف الأحداث السلبية على طيف واسع من الأحداث والعناصر والمكونات البنائية والتجهيزات والإدارية والتعاملات والممارسات غير السوية ضمن إطار العمل في مجال الخدمات الصحية, وللأحداث السلبية وسلامة المريض تعريفات عدة, ومنها تعريف ''الأحداث السلبية'' بأنها أحداث تؤدي إلى الأذى أو الإصابات الناتجة عن عمليات وإجراءات الرعاية الصحية, وتشمل الأخطاء الطبية التي لا يُتوقع حدوثها من طبيب يقظ من أواسط الأطباء وجد في الظروف نفسها. كما تعرف ''سلامة المريض'' بأنها حماية ووقاية المريض من المردود السلبي أو الإصابات غير المتوقعة الناتجة عن عمليات وإجراءات الرعاية الصحية. ويلزم لاستكمال جوانب المسؤولية الطبية عن الأحداث السلبية وجود علاقة طبية بين الطبيب والمريض, وحدوث خطأ من الطبيب وضرر للمريض, ووجود رابطة سببية بين خطأ الطبيب وضرر المريض. والأحداث السلبية في الرعاية الصحية مشكلة عالمية, يستدل عليها من عديد من الأبحاث والدراسات والوثائق, ومنها دراسة هارفارد للممارسات الطبية (عام1991), وتقرير المعهد الطبي في الولايات المتحدة الأمريكية – بعنوان ''الخطأ إنساني .. بناء نظام صحي أكثر مأمونية'' (عام 1999), وتقرير الإدارة الصحية في المملكة المتحدة (عام 2000) – بعنوان ''تنظيم له ذاكرة'', وتقرير منظمة الصحة العالمية (2006) إلى جانب عديد من الدراسات والوثائق الصادرة من دول ومنظمات مختلفة. ويرى عديد من الجهات ذات الصلة أن نصف الأحداث السلبية يمكن تجنبه إذا اتبعت معايير الرعاية الأساسية على نحو أكثر اتساعاً في العالم المتقدم والنامي على السواء. وفي ضوء ذلك أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريرا (مايو 2006) تضمن رؤى لمجابهة الأحداث السلبية, وأكد التقرير الحاجة إلى تحسين سلامة المريض وأن ذلك ''يستلزم تصميم نظم الرعاية الصحية تصميماً جيداً من أجل الحد من المخاطر التي يتعرض لها المريض..''. وكذلك الحاجة إلى تغيير سلوك الأفراد والجماعات والمنظمات في مجال إيتاء الرعاية الصحية إلى الأفضل''. كما أنشأت عدة دول مؤسسات تعمل على تجويد الخدمة الصحية وتعزيز سلامة المريض, منها إنشاء الوكالة الوطنية لسلامة المرضى وجمعية الحماية الطبية الأمريكية في الولايات المتحدة والاتحاد العالمي لسلامة المرضى وكذلك عدة منظمات بريطانية وأسترالية إلى جانب الاتحاد الدولي لمكافحة العدوى والشبكة الإقليمية لدول شرق المتوسط لمنظمة الصحة العالمية, واتخذت الجامعة العربية في اجتماع القمة العربية القرار رقم د- 395-19 وتاريخ 29 آذار (مارس) 2007, الذي ينص على: ''تطبيق مشروع عربي لتحسين نوعية الخدمات الصحية في دول العالم العربي كمشروع رائد يهدف إلى تأكيد تقديم نوعية عالية ومأمونة للخدمات الصحية ولبلوغ مجتمع عربي خال من الأمراض'', كما أجازت تطبيق وسيلة اعتماد تجريبية في عدد من الدول العربية منها السعودية, الأردن, السودان, سورية, العراق, ومصر, ونتج عن ذلك تحديد عدد من الصعوبات التي تواجه جهود تحسين الخدمة وسلامة المريض منها عدم وجود هيئات وطنية مستقلة للاعتماد وكذلك اختلاف النظم القانونية. وقامت الجهات المختصة في بلدان الخليج العربية ومنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط والمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة لدول الخليج العربية بجهود عديدة ترمي إلى التقليل من الأخطاء السلبية. وفي المملكة أدركت الجهات المعنية أهمية إبراز حقوق المريض وحصوله على الرعاية الصحية مع الحفاظ على سلامته في جسمه وعقله من جهة، وحقوق العاملين في المجال الصحي من جهة أخرى، فسارعت وزارة الصحة ومجلس الشورى ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية إلى اتخاذ خطوات منها: - إقرار ''استراتيجية الرعاية الصحية في المملكة, التي احتوت على 12 أساساً استراتيجياً منها استراتيجيتان تعنيان بالجودة النوعية وبحقوق المريض والفريق الصحي وتعزيزها من قبل مجلس الشورى, وصدوره بقرار مجلس الوزراء رقم 88/60 وتاريخ 30/12/1429هـ. - قرار مجلس الشورى رقم93/63 وتاريخ 8/1/1430هـ , الذي ينص على (إنشاء هيئة مختصة مستقلة للجودة النوعية في الخدمة الصحية, تختص بوضع المعايير المطلوبة للخدمات الصحية وتوصيلها للمرضى بالصورة الملائمة في أنماط الخدمات العلاجية والوقائية ووسائلها والتحقق من الالتزام بها في المنشآت الصحية ـ كما ونوعاً - ولها أن تستعين في سبيل ذلك ببيوت الخبرة العالمية). - نظام أخلاقيات البحث على المخلوقات الحية الصادر بقرار مجلس الشورى رقم 37/27 وتاريخ 25/6/1428هـ. الهيئة السعودية للتخصصات الصحية – كما هي حالياً - بالترخيص والتسجيل والتعليم والتدريب حسب نظامها الصادر بموجب المرسوم الملكي رقم م/2 وتاريخ 6/2/ 1413هـ المبني على قرار مجلس الوزراء رقم 16 وتاريخ 5/2/1413هـ. ويستند النظام المقترح إلى أساس الحاجة إلى وضع نظام متكامل يُعنى بمختلف الجوانب ذات الصلة بالخدمات الصحية والمفهوم التكاملي لتعزيز الجودة النوعية وسلامة المريض في الرعاية الصحية, وخفض معدلات الأحداث السلبية بما فيها الأخطاء الطبية ـ التشخيصية والعلاجية والجراحية - والالتزام بالأسس النظامية والأخلاقيات المهنية, وتمشيا مع التوجه العالمي والإقليمي لمنظمة الصحة العالمية والمؤسسات ذات العلاقة بالجودة النوعية وسلامة المريض في الرعاية الصحية حول أهمية ضمان متطلبات تجويد الخدمة توخيا لإيصال الرعاية الصحية إلى المريض بالمستوى المأمول والوقاية من الأحداث السلبية في الرعاية الصحية أو التقليل منها ما أمكن ذلك. وروعي في النظام المقترح أن يستند إلى ''إنشاء هيئة لاعتماد المؤسسات الصحية على أساس الجودة النوعية في الخدمات الصحية, وأن تقوم بتقييم واعتماد المؤسسات الصحية من خلال التأكد من الوفاء بالمتطلبات الإنشائية والتجهيزية والقوى البشرية وآليات وإجراءات العمل المهني وأخلاقياته في الخدمة الصحية, وتأصيل مفهوم الجودة النوعية, وتوخي سلامة المريض''. ومن نافلة القول إن الخطاب الإعلامي يجب أن يأتي من خلال النظرة الموضوعية إلى جودة الخدمات الصحية, كماً ونوعاً, من عدمها انطلاقا من المفهوم الصحي ومعاييره ومفرداته, وأن يشتمل على عناصر ترتكز على المفاهيم المتعارف عليها في المجال الصحي وأخلاقيات الممارسة الصحية الهادفة إلى الحفاظ على كرامة الإنسان وحفظ حقوقه وسلامته في جسمه وعقله.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها