يا أخي لم أعد أحتمل

اتصل بي بعد طول انقطاع، وبادرني بسؤال مباشر ''ألم تشتق لي؟ أم أنك أيضا لم تعد تحتملني!!''، طبعاً كان ردي اعتذارياً عن الجفاء والتأكيد على سروري بتلك المكالمة, التي بنهايتها ألزمت نفسي زيارته اليوم التالي وفي منزله, لم يكن كما عهدته, حيث بدا لي مشدود الأعصاب كثير التذمر يجتر أنفاسه من عمق رئتيه, ويئن بين الفينة والأخرى, فسألته إن كانت صحته على ما يرام فكان جوابه ''الصحة عال العال ولكن النفسية في الحضيض, يا أخي لم أعد أحتمل''.
منذ أشهر بدأ يتردد على الطبيب النفسي بعد أن نصحه أحد أقربائه, الذي حذره من مغبة ترك الاكتئاب يستولي عليه، قال لي إنه لا يشعر باكتئاب بل يشعر بسخط وحنق شديدين من بعض المواقف التي يتعرض لها أو يلاحظها، ويعزو ذلك لكونه فقد المرونة النفسية فبات يكترث ويستسخف ويمقت، وهي مشاعر لم تكن ذات تأثير يبقى في نفسه في الماضي، لكنه اليوم يشعر بأن تلك المشاعر متى تأججت في نفسه تبقى أياما وتتسعر مع كل موقف حتى باتت تصبغ شخصيته وحياته، ما جعل الآخرين لا يحتملونه، بل إنه بات لا يحتمل نفسه. قلت له كيف بدا لديك ذلك؟ قال ''كنت ألاحظ تصرفات الناس في البداية، أسخر من الشاذ منها وأتهكم، ثم بات بعد ذلك لدي موقف من تلك التصرفات حتى إنني كنت أتمنى لو كانت لدي سلطة لأشبعت أولئك عذابي، ثم نما معي ذلك الشعور بصورة بت أتمثله نفسي، حتى إن تلك التصرفات عندما ألحظها تعذبني فكما أني بسلطتي المفترضة أعذب نفسي بالوكالة، لذا أصبحت لا أحتمل، يا سيدي أنا لم أعد أحتمل غطرسة وغرور حديث النعمة عندما يستولي على الحديث في المجلس بكلام ساذج سخيف، ولم أعد أحتمل من يصر على أن تغير مسارك في الطريق بتكبيس النور والبوق فقط لأنه يريد أن يتخطاك، حتى لو كنت تسير بأقصى سرعة مسموحة. ولم أعد أحتمل الموظف الذي تتصل به لتطلب خدمة ممكنة بالهاتف فيصر على أن تحضر شخصياً وعندما تحضر لا تحصل على الخدمة بأعذار واهية ومتغيرة، وعندما تتصل بأحد معارفه يفتح لك جميع الأبواب، لم أعد أحتمل من يصر على دعوتك إلى وليمة ولا يقبل منك عذراً ثم تحضر فيكون مكانك في المجلس الرديف، لم أعد أحتمل المقاول الذي يصر على جلب العمال لموقع بين السكان بعد صلاة الفجر مباشرة فيزعج الجيران بجلبة المطارق والفواريع وخلاطات الأسمنت، ولم أعد أحتمل من دوريات الشرطة عندما تقدم بلاغا عن ذلك المقاول وتطلب منهم إسعافك بكف ذلك الإزعاج يكون جوابهم عدم الاختصاص ويقترحون أن تشتكي للبلدية، لم أعد أحتمل العيادة التي تأخذ موعداً لديهم في ساعة محددة ويتصلون بك 20 مرة لتأكيد الموعد والساعة، وعندما تحضر لا يكون الطبيب موجوداً ويحضر بعد ساعة أو أكثر ولا يعتذر عن التأخير، لم أعد أحتمل من يدخل المصعد ومعه امرأة ثم يطلب من باقي المنتظرين عدم الدخول في المصعد لوجود امرأة فيه، لم أعد أحتمل الأستاذ الذي يستغل براءة طالب الابتدائية ويستدرجه لمعرفة سلوك والده، لم أعد أحتمل المؤذن الذي يرفع درجة صوت الميكرفون ليعتلي أصوات مؤذني المساجد المجاورة ليستأثر بالفضاء، لم أعد أحتمل بعض الدوائر الحكومية التي تحصر مواقفها الشاسعة للموظفين فقط والمراجع بالطقاق يبحث عن موقف في أي مكان، لم أعد أحتمل كاتب العدل الذي يصر على المرأة إحضار شاهدي تعريف لأنه يستحرم النظر إليها وتطبيق بطاقة أحوالها أسوة بالرجل، لم أعد أحتمل من يجد وجاهته وقيمته في خرق الأنظمة ويفاخر في ذلك، لم أعد أحتمل من تقوم للسلام عليه في المجلس فيمد يده وهو يخاطب شخصا آخر ثم لا ينظر في وجهك وكأن التحية لك ليست ذات قيمة، لم أعد أحتمل من رئيس لجنة أنا فيها أن يفترض أن أوافقه على كل ما يريد فإذا لم أفعل يجاهد في إقصائي من تلك اللجنة، لم أعد أحتمل التعدي علي كإنسان له كرامته بغض النظر عمن أكون نسباً أو ثروة أو مركزاً أو سطوة أو غير ذلك من مآثر الدنيا''.
كان يقول ذلك كما لو كان يخطب في حفل فعيناه في كل اتجاه، وبعد أن فرغ من ذلك أردف بسؤالي ''هل أنا مكتئب ؟ أنا لست مكتئبا أنا غاضب وغاضب على نفسي في الدرجة الأولى لأنني بت أكترث، وإلا ما ذا لو بت مثل بقية الناس، خصوصاً أولئك الذين يتلونون حسب الحالة، المصلحة هي الدليل والقائد، ألا ترى أن حالي سيكون أفضل؟'' لم أجب لأن السؤال غمرني فبات في فمي ماء أرجو ألا يغرقني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي