اللامركزية في الميزانية: منح مجالس المناطق صلاحيات أوسع

اليوم، وبعد نهضة تنموية تعليمية تتجاوز نصف قرن، أعتقد أن مهمة متابعة الميزانية ومتابعة الخروج عن نصوصها الاستثنائية بل وتقرير حجم المصروفات لكل قطاع هي مهمة ضخمة.
حقيقة، من سيعرف جدة وسيولها أكثر من مهندسيها وعقارييها ومسؤوليها المخلصين؟ من سيعرف احتياجات البحث العلمي في جامعة الملك سعود أفضل من أساتذتها وطلابها؟ وهل يمكن لأي شخص جالس في ربوع الرياض أن يعرف على وجه الدقة الاحتياج السكني أو التعليمي لمناطق الحدود الشمالية أو الجنوبية؟ لا أعتقد أن هناك آلية أفضل لمعرفة وتلمس تلك الاحتياجات أفضل من الناس أنفسهم، ولأن الناس جميعا لا يمكن واقعيا جمعهم في مكان واحد لسماع أصواتهم، أعتقد أن المجالس البلدية ومجالس المناطق مع مجلس الشورى تشكل أفضل الآليات الموجودة الآن لمعرفة حقيقة الاحتياج الفعلي على أرض الواقع. إن تلمس هموم الناس لا يمكن أن يحدث بمعزل عن أرض الواقع، وأرض الواقع يبثه ممثلو الشعب، وأقربهم إلى ذلك هم أعضاء المجالس الشعبية الأهلية.
لا يكفي ولن يكفي فقط سماع وجهة نظر السلطة التنفيذية المتمثلة في مندوبي الوزارات والجهات الحكومية، فهؤلاء مهما بلغ إخلاصهم لا تسعفهم دوامة الروتين اليومي أن يلحظوا ما يحدث خارج نوافذ مبانيهم الأسمنتية. لا بد من أصوات تنبع من رحم الطرق والأحياء؛ أصوات ليست مكبلة بالتعقيدات الحكومية وليست مدفونة بركام المعاملات غير المنتهية. أصوات تستطيع أن تقودنا لمعرفة الأولويات؛ هل هو طريق في مكة أم سكة قطار في المدينة؟ هل هو مستشفى أو مدرسة في عرعر؟ وهل هو بناء مدرسة أو جامعة في الأرطاوية؟ بالطبع ستبقى بعض المشاريع التي لا يمكن القيام بها إلا بشكل مركزي، كالأمن والدفاع والسياسات الاستراتيجية -كالابتعاث مثلا - وهذه مكانها الأنسب بلا جدال هو جهة حكومية مركزية، ولكن الغالبية العظمى من المشاريع التي تهم المواطنين لا يمكن معرفتها بدقة بالآليات المركزية.
لا بد من نفض الغبار والخروج من تقوقع المنهجية العتيقة، وهذا لا يمكن إلا بإعمال آليات مختلفة تعتمد اعتمادا رئيسيا على منهج لا مركزي. إن اللامركزية في وضع الميزانية هي أنجع الوسائل لترتيب الأولويات بشكل يعكس احتياجات المناطق بشكل حقيقي. لا أظنه تطرف المطالبة بمنح المناطق هامش حرية أكبر في رسم الميزانيات. لماذا لا تمنح منطقة الرياض مثلا، مبلغا قدره 50 مليارا مثلا، يتم رسم أوجه صرفه من قبل مجلس منطقة الرياض بالاشتراك مع المجلس البلدي وغيره من المجالس أو الكيانات المعنية بالخدمات العامة؟ بهذا، لا تلام وزارة المالية فيما لو حدث تقصير أو إهمال أو تهميش لمشاريع حيوية أو حساسة. وثانيا، منح هذه المسؤولية للمنطقة يعطيها المرونة اللازمة للصرف وفقا لاحتياجاتها الحقيقية الماسة. فمن يعرف منطقة الرياض أكثر من أميرنا المحبوب سلمان بن عبد العزيز ورجاله المشرفين على سير الأمور في كل شبر في هذه المنطقة؟ من يسمع شكاوى الناس بالمئات يوميا عن نقص هنا أو احتياج هناك؟ إنهم المسؤولون المحليون المتعايشون مع هموم الناس على تنوعها بشكل يومي. إن منح المنطقة مبلغا محددا كل سنة سيعطيها المرونة في الصرف وسيجعلها تحت سيف الرقيب الحكومي - وزارة المالية ومجلس الشورى مثلا - وتحت سيف الرقيب الشعبي - الأهالي - لصرف تلك المبالغ وفقا للاحتياجات الحقيقية الأكثر أهمية، ولا يمنع أن يكون الصرف وتحديد البنود وفقا لآليات ومنهجية منضبطة ماليا تتمتع بدرجة عالية من الشفافية تسمح بمراقبتها من قبل جميع العيون الرقابية مما يكفل تحقيق الأهداف المنشودة من الميزانية.
إن كثافة القدرات البشرية الموزعة في كل مناطق المملكة هي صمام أمان كفيل بصرف الميزانية وتحديد أوجه إنفاقها بشكل لا أشك في أنه سيرتقي إلى درجات متميزة تضمن تحقيق أكبر قدر ممكن من الأهداف التي لا يكل ولا يمل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز من تكرارها والتأكيد على مضامينها، حفظه الله ورعاه. لنجرب اللامركزية ولو بشكل اختباري في بعض الشؤون، لنمنحها فرصة؛ لو فعلنا ذلك، أعتقد أننا سنندب حظنا على السنوات الماضية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي