ميزانية سخية سيعم خيرها الجميع إذا نفذت بكفاءة ونزاهة!
كمقدمة لاستشعار تطور حجم الميزانية العامة للدولة، وما يعنيه في مقاييس التنمية الاقتصادية، والتوسع في بناء المشاريع التنموية، أتذكر أن أكبر حجم لميزانية الدولة في عصر الطفرة الأولى، لم يكن يتجاوز (340) مليارا، وكان ذلك في العام المالي 1381/1382هـ، وكان المسؤولون في وزارة المالية، يمارون ويفتخرون بهذا الرقم، ويتصورون أن حجم الميزانية لن يتخطاه في يوم من الأيام، لأن قنوات الصرف في الأجهزة الحكومية، في ذلك الوقت، لم تكن قادرة على استيعاب صرف ما يخصص لها بالكامل، وكان ذلك مدعاة لتمويل بعض صناديق الإقراض والتنمية في آخر السنة المالية، من أجل رفع حجم المصروفات الفعلية!
وقد أعقب ذلك عشر سنوات عجاف، أكلت ما كان مدخراً من فوائض وقت الطفرة، في الاحتياطي النقدي للميزانية، حين بدأ انحسار حجم الإيرادات نتيجة لانخفاض سعر البترول، وهو المورد الرئيسي للميزانية، إلى حد لم يكن متوقعا البتة! واضطرت خلالها الحكومة إلى تغطية العجز السنوي في الميزانية من الاحتياطي، وأدى ذلك إلى تضاؤل حجم الميزانية الكلى، حيث هبط إلى ما دون (150) ملياراً، واضطرت الحكومة إلى عدم إصدار ميزانية لبعض السنوات، لعدم قدرتها على تكوين رؤية واضحة حول مقدار الدخل.
لكن الملموس أنه رغم تضاؤل حجم الميزانية في ذلك الوقت، وتحديداً خلال السنوات الواقعة بين عامي 1985 و1999، الذي لم يكن في بعض السنوات يتجاوز حجم ميزانية قطاع من القطاعات في الميزانية الحالية، كالتعليم، فإن تلك الأرقام أسهمت إسهاما فاعلا في توفير دعائم البنية التحتية، التي كانت سببا في انطلاق التنمية الاقتصادية، وذلك لأسباب منها:
أولاً: انخفاض تكلفة إقامة المشاريع في ذلك الوقت، عما تنفذ به حاليا.
وثانياً: لأنه رغم صغر حجم الميزانية فقد كان ما يخصص للمشاريع يشكل نسبة كبيرة منها، نظراً لأن الرواتب لم تكن تستهلك نسبة ما تستهلكه الآن من الميزانية (نحو 40 في المائة).
وثالثاً: للنظرة المتحصلة لدى المتابعين القريبين من الأوضاع المالية، بأن مستوى الجدية والمتابعة في تنفيذ المشاريع، والإشراف والرقابة عليها، كان أفضل، بيد أن النظرة التي سادت في السنوات الأخيرة، في الأوساط الاجتماعية، أوحت بأن المشاريع لم تعد تنفذ في وقتها، وإذا نفذت لا يتم ذلك بالمستوى المفترض، وأنه يظهر في كثير منها خلل وعيوب فور وضعها في الاستخدام، أو لا تؤدي الغرض منها البتة!
وقد أفرز ذلك اعتقادا شائعا لدى عامة الناس بأن ممارسات مثل الإهمال والفساد، هما ما يبطن بعض المشاريع ويغطيها، وقد لا يحتاج هذا إلى برهان بعد حوادث مثل أنفاق الدمام، وسيول جدة!
أما اليوم فإن المرء يقف مندهشا ومعجبا حين يشاهد رقم الميزانية يتخطى حاجز نصف تريليون ريال، ويصل إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه في فترة ماضية، وهو ما لم يكن أحد يحلم به، حين يلمس أن حجم ما خصص لقطاع من القطاعات، كالتعليم، يعادل حجم الميزانية الكلية للدولة في يوم من الأيام، وأن حجم ما خصص لقطاع من القطاعات الأخرى، كالصحة، يعادل حجم ميزانية دولة ما، وهذا يوجب علينا التأمل والتدبر، ثم الشكر لله تعالى على ما أنعم به على البلاد، ونتذكر أن الله أوصانا بالأمانة والإخلاص في أعمالنا، وجعلنا أوصياء على غيرنا، ممن يعملون تحت إشرافنا، في حثهم على الجد والإخلاص، ومراقبة ما يؤدونه من أعمال.
لقد كانت كلمات خادم الحرمين الشريفين أمام مجلس الوزراء حين اعتماد الميزانية، حيث قال (على الوزراء ورؤساء الأجهزة الحكومية المتابعة الدقيقة لما ينفذ، دون أي تقصير أو تهاون، والاستشعار الدائم للمسؤولية والأمانة التي تحملوها أمام الله ثم أمامنا، وعلى الأجهزة الرقابية القيام بدورها على أكمل وجه ورفع التقارير إلينا أولا بأول)، كما تابع - حفظه الله (المهم عليكم - إخواني - إتمامها بجد وإخلاص وسرعة، وعدم التهاون في كل شيء يعوقها، لأن هذه أسمعها أنا من الناس، وأحسها بنفسي، بعض المشاريع إلى الآن ما بينت، ضائعة، لكني آمل منكم الذي يجد تقصيراً من أي أحد، أن يخبرني، لأنه لا يوجد تقصير أبدا أبدا، واللوم إذا جاء يجيء على الوزير فقط، أرجوكم، وهذه خدمة لدينكم ووطنكم ومستقبل أمتكم).
لقد كان لهذه الكلمات معان عميقة وواضحة ومفهومة، تظهر أن رأس الدولة غير خاف عليه ما يجري، ومنها:
1/ (المسؤولية والأمانة التي يتحملها الوزراء ورؤساء الأجهزة الحكومية أمام الله ثم أمام الملك) وهي كلمات ذات معان كبيرة.
2/ (المتابعة الدقيقة لما ينفذ دون أي تقصير أو تهاون) وكلمة (الدقيقة) تتجاوز المتابعة العادية التي تتم من خلال التقارير التي تأتي للمسؤول في مكتبه، خالية مما يشوب العمل.
3/ أن (على الوزراء إتمامها بجد وإخلاص وسرعة)، وهذا يعني أن هذه العوامل، الجد والإخلاص والسرعة، هي ما تحتاجه المشاريع، وإنها إما كانت مفقودة، أو لم تكن ملموسة بالشكل المطلوب.
4/ أن (بعض المشاريع إلى الآن ما بينت، ضائعة)، وهذا ينطبق على مشاريع اعتمدت لها الاعتمادات ولم تنفذ، أو حولت الاعتمادات إلى أوجه أخرى، أو أنها نفذت ولم تتم الاستفادة منها.
5/ أن (اللوم إذا جاء يجيء على الوزير فقط)، أي أن الوزراء يتحملون المسؤولية أمام الملك تجاه أي تقصير يحدث من الأجهزة التابعة لهم.
6/ (أرجوكم هذه خدمة لدينكم ووطنكم ومستقبل أمتكم)، فإن يتواضع الملك إلى درجة (يرجو) فيها الوزراء القيام بما يجب عليهم، فإن ذلك مما يضاعف حجم مسؤوليتهم أمام الملك.
7/ أن (على الأجهزة الرقابية القيام بدورها على أكمل وجه)، وهو ما يعني تذكير الأجهزة الرقابية بما يجب عليها تجاه متابعة ومراقبة تنفيذ المشاريع.
وأخيرا أرى أن الملك لم يترك عذراً أو فرصة للتبرير، تجاه أي تقصير، وقد يكون من المناسب أن يضع كل مسؤول هذه الكلمات نصب عينيه في مكان بارز وبخط واضح في مكتبه، ليتذكرها ويعمل بها.
كاتب في الشأن العام
والله من وراء القصد.