مدينة الـ 100 شهيد

كلما حاولت أن أستوعب ما حدث يوم التروية لم أستطع، فهول الصدمة وصور ما خلفته السيول لا يكادان يفارقان مخيلتي منذ ذلك اليوم، فكيف بمَن فقد زوجته أو أبناءه أو أحد والديه أو أقاربه، فوجده ضمن الموتى، وبعضهم لا يزال في عداد المفقودين. وما حال مَن فقد منزله وكل ممتلكاته، لقد كانت الفاجعة كبيرة للغاية ومناظر الدمار التي خلفتها تلك السيول أشبه ما تكون بمناظر طوفان كبير أو زلزال عنيف. ولا أملك إلا أن أدعو الله أن يرحم الشهداء الغرقى ويرزق أهلهم الصبر والسلوان ويعينهم على هذه الفاجعة الأليمة. لم أكن أصدق ما كنت أراه من صور ولا ما كنت أشاهده من مقاطع في ''اليوتيوب'' عن الآثار التي خلفتها تلك السيول. لقد كانت مأساة بكل المقاييس. كان من المفترض أن يتعامل معها الإعلام بشكل أفضل. فكان الله في عون كل مبتلى من هذه المحنة.
الكثير كان ينادي بألا نشغل أنفسنا اليوم بدعوى المحاسبة، بل بسرعة وضع الحلول لمعالجة الوضع والحرص على الاستفادة من هذه الأخطاء للمستقبل، وأن نصبر على مشاريع البنية التحتية القائمة عدة سنوات حتى تنتهي فإن فيها العلاج، والبعض حمّل المواطن سبب ما حدث من كارثة، فهو الذي قام بالبناء في مناطق الأودية دون تصاريح، وهو الذي قام بتشييد أحياء كاملة يتجاوز عدد سكانها عشرات الآلاف من المواطنين والمقيمين دون تصريح، ولذلك يجب أن يتحمّل هو مسؤولية ما حدث، وهذا من أعجب ما سمعت فلئن قام المواطن ببناء هذه المساكن من تلقاء نفسه دون تصريح، هل أقيمت هذه الأحياء بما فيها من مدارس ومستشفيات ومساجد في هذه المواقع دون موافقة رسمية؟ بل هل أقيمت جامعة الملك عبد العزيز والتي أزال السيل سورها الشرقي دون تصريح؟
لقد كاد أهالي جدة يفقدون الأمل فيمن يعزيهم في فاجعتهم التي حصدت أكثر من 100 قتيل، وكاد أهالي حي قويزة يموتون من القهر مما رأوه من نتائج الفساد ومن ألم فقدان أحبابهم حتى جاء إعلان خادم الحرمين الشريفين بالأمس وإصداره قرار التعويض والمحاسبة ليبرأ ذمته أمام الله، إلا أن صدور القرار ليس كل شيء، بل العبرة أن يتم تنفيذ هذا القرار بالحرص والاهتمام نفسيهما اللذين صدرا به، وألا يتأخر التنفيذ، وأن يأخذ مكانه من التطبيق الفوري ليؤكد أهدافه، وإلا فإن فرحة الناس بهذا التعويض ستتلاشى، خصوصاً إن دخل دهاليز اللجان واللجان المنبثقة من لجان، كما أن المساعدات لن يكون لها قيمة، إن لم تُصرف فورا. وكذلك محاسبة المسؤولين والاعتراف بالأخطاء بشجاعة كما ذكر خادم الحرمين الشريفين.
إن ما يحدث اليوم لمدينة جدة هو مأساة بكل المقاييس فنحن نسمع عن مشاريع الصرف الصحي وتصريف مياه السيول والأمطار وشبكات المياه والتي أعلن عن تكلفة أحدها بسبعة مليارات ريال وغيرها من مشاريع البنية التحتية منذ عشرات السنين، وكلما جاء مسؤول أعلن عن هذه المشاريع بميزانيات بمئات الملايين من الريالات، ولكن ما تلبث أن تسقط الأمطار حتى تكشف زيف هذه التصريحات، وهاهي بحيرة المسك تهدد الأحياء يوماً بعد يوم، وأصبح الناس يسألون بعضهم بعضا: هل حيّنا في خطر؟ هل نخلي منازلنا؟ هل نثق بما يبلغ لنا؟ أم سيكون مصيرنا مثل حي قويزة؟ ولكن ليس من جرّاء السيول، بل من جرّاء انهيار سد بحيرة المسك.
لا أعرف كيف سيتمكن أولئك المسؤولون الذين كانت هذه المشاريع تحت مسؤوليتهم من النوم بعد أن رأوا تلك المناظر وعرفوا عدد القتلى، بل كيف سيغمض لهم جفن وبيوت الناس قد دُمرت وسياراتهم قد سحقت، ومعظمهم خسر كل ما يملك، وكيف يسوغ لأصحاب الشركات التي نفذت تلك المشاريع أن يأكلوا لقمة طعام من عوائد هذه المشاريع التي مزجت بدماء الأبرياء.
إن مَن أمن العقوبة أساء الأدب، ولقد تجاوزنا إساءة الأدب بمراحل لنصل إلى مرحلة الجرائم والفساد والكوارث، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي