Author

تطوير التعليم .. الأمور الصغيرة قد تهدم الكبيرة!

|
لم تحظ وزارة ما بمثل ما حظيت به وزارة التربية والتعليم من اهتمام ودعم من القيادة, بخاصة في عهدها الجديد! وزير وثلاثة نواب أحدهم في مرتبة وزير, وعدد كبير من الوكلاء والمسؤولين الأكفاء! وفوق هذا كله ميزانية ضخمة يكاد المرء يخطئ في قراءة أرقامها المذهلة, التي تعادل أو تفوق ميزانية دولة, وليس وزارة, ويتصور المتأمل لها أنه يستحيل معها حصول أو قبول أي عذر للقصور عن بلوغ الأهداف! وقبل ذلك كله هناك المنحة التي تفضل بها خادم الحرمين الشريفين لتطوير التعليم, البالغ مقدارها تسعة مليارات ريال قبل عدة سنوات, رؤي تكوين شركة قابضة تتولى تنفيذ مشاريعها بمرونة بعيدا عن تعقيدات الإجراءات البيروقراطية, بإشراف مجلس إدارة على أعلى المستويات, ورئيس تنفيذي مختار بعناية! ومن ثم يحق لكل مواطن أن يتساءل: أفبعد هذا يوجد مجال للأعذار؟! مشكلة وزارة التربية والتعليم, في الماضي, أن كل وزير يأتي يحمل أفكارا لمنهجية العمل وفق رؤيته الخاصة, غير ما كان يحمله سلفه, فتضيع سنوات من عمر الأجيال في إجراء الدراسات ووضع البرامج والآليات, ولا يكاد يبدأ في تنفيذها حتى يأتي غيره كي يبدأ من جديد! ونحن لا نشكك في نيات أحد, والكل مخلص ــ إن شاء الله ــ لكن كما يقول المثل (لكل مجتهد نصيب), بيد أن العمل التربوي والتعليمي ينبغي أن يكون عملا مؤسسيا, يُبنى على رؤى واضحة, ومنهجية ثابتة ومستمرة, يستمد أسسه من تراث الأمة وحضارتها, ولا يهمل مكتشفات العلوم ووسائل التقنية, هذا رغم أن الكل كان يعرف العلة المتمثلة في رداءة المخرجات, وتدني المستويات, بحيث صار هدف التعليم حشو الأذهان بالمعلومات التي ما تلبث أن تتبخر فور إغلاق المدرسة أبوابها في نهاية العام الدراسي, وتحول الأمر إلى تسابق على تحقيق أعلى النسب في الشهادات, بغض النظر عن تحقيق الغايات, وأسفر ذلك كله عن تخريج أجيال تنكرت للقيم, وانسلخت عن التراث, ولم تجد مكانها في بناء الأمة, إن لم تكن قد أساءت لمقدرات هذه الأمة بتصرفات مسلكية عبثية في مناسبات وطنية! حتى مادة التربية الوطنية التي استحدثت قبل أكثر من عقد من الزمن, وقيل إنها ستكون المحرك الذي يوقظ في النفوس حب الوطن ورعاية مكتسباته, والتمسك بقيمه وأخلاقياته, لم يكتسب منها الطالب ما يفيده, لأن التربية فعل ويقين قبل أن تكون مادة للتلقين! فما الذي ينتظر من طالب يرى والده أو صديقه يتعدى على حقوق الغير, في المرور مثلا, أو يسيء إلى المرافق العامة, أو يلقي بالنفايات في الشارع العام من نافذة السيارة؟! حتى لو حشونا ذهنه بما في الكتب من معلومات عن التربية والوطنية والسلوك فلن يستجيب لشيء, وماذا ينتظر من طالب يحرص أهله على بناء سلوكه وتهذيبه والابتعاد عن القول الفاحش عندما يسمع ما يهدم ذلك كله بين جنبات المدرسة؟! وماذا ينتظر من طالب أو طالبة يحرص أهله على تعويده على النظافة والنظام في حياته وأدواته, عندما يرى الأوساخ تغمر المدرسة, أو يقرأ بعض العبارات النابية على حوائط المدرسة وحماماتها؟! من باب الاستطلاع ومعرفة ما يجري داخل المدرسة, قمت بسؤال أبنائي وأقاربي الطلاب والطالبات عما إذا كانوا يقفون في صف, أثناء الفسحة, لشراء حاجاتهم من المقاصف, وفقا لأولوية حضور كل واحد منهم, فكانت الإجابة نفيا قاطعا, وعندما تساءلت إذاً كيف تحصلون على حاجتكم؟ أجابوا بأن الأقوى وطويل القامة واللسان هو من يفوز أولا, أما المؤدب والخجول فهو من يبقى آخرا, أفلا يعكس مثل هذا المظهر ردة فعل سيئة تجعل الطالب صاحب السلوك المثالي يتخلى عن مبادئه في سبيل الحصول على حقه؟! وما الذي يجعل الطلبة يتزاحمون على المقصف في المدرسة في حين ينتظمون في الصف في مطاعم الوجبات السريعة خارج المدرسة؟! أو يحرصون على ألا يتركوا نفاياتهم على الطاولات أو يرمونها على الأرض كما يفعلون في المدرسة؟! أليس المفترض أن تكون المدرسة هي التي يتعلمون فيها ومنها أدبيات النظام والسلوك العام؟! مثال آخر أسوقه, فقد نقلت لي من أثق بروايتها, وهي تعمل في إحدى المدارس الثانوية, وليست الابتدائية, أن الطالبات أثناء الفسحة يلقين بالعلب الفارغة والمناديل ومخلفات الوجبات في المكان ذاته الذي يتفسحن فيه, حتى أن المنظر بعد انتهاء الفسحة يبعث على الشفقة والأسى من نوع التربية التي تلقتها هؤلاء الطالبات عندما يقمن بمثل ذلك التصرف! وما الذي سيكون عليه وضعهن, وأي بيوت سيبنين بعد الزواج؟! وما نوع التربية التي يتلقاها الطلبة في المدارس إذا لم تزرع فيهم حب النظافة والتزام النظام واحترام حقوق الغير؟! أوردت ما أوردت كي أبين أن هناك أمورا قد تبدو للبعض صغيرة لكنها قد تقف حائلا دون إتمام البنيان وبناء الإنسان, ومن ثم علينا أن نتنبه لمثل هذه الأمور ونبدأ بها إن نحن أردنا التأسيس لتربية تقوم على بناء العقول وتهذيب السلوك. وأختم بأنني ألمح أن الكل متفائل بأن الفريق الحالي, الذي تم اختياره بمهارة وجدارة من قبل القيادة العليا, هو الأقرب والأجدر والأقدر على حمل مسؤولية التصحيح والتطوير, بيد أن ذلك يتطلب أول ما يتطلب التيقظ والانتباه لمثل تلك الأمور التي قد تهدم البناء كله, كما تفعل الجرذان بالجدران! والله من وراء القصد.
إنشرها