ضبط الجودة النوعية خليجيا لتأهيل العمالة وحماية الاقتصاد (2 من 4)

الحاجة إلى الحمايــة
تتماثل دول الخليج في معطياتها السكانية ومتطلباتها الاقتصادية وظروفها الاجتماعية، وتكاد تتماثل في انطلاقتها التنموية تخطيطا وتطلعا وتوقيتا وبرامج. ولهذه الدول مجهودات جيدة ذات جدوى واضحة في الوقاية الصحية، فعلى الرغم من تعدد الجنسيات الوافدة إليها وكثرة أعداد القادمين وتدني المستوى الصحي لدى السواد الأعظم منها، فإن هناك إجراءات صحية وقائية متبعة لدى هذه الدول تهدف إلى حماية الصحة العامة فيها ما قد تجلبه تلك العمالة معها من مختلف الأمراض البسيط منها والمستعصي أو المميت ـ لا قدر الله.
هذه الدول في حاجة إلى إجراءات مماثلة لحماية الاقتصاد العام والمجتمع بها, إذ إن تسرب الأيدي العاملة ذات التأهيل المتدني أو المعدوم إلى اقتصاد أي بلد, وخصوصاً في مرحلة الانطلاق لا يقل ضرراً أو خطراً عليها من تسرب ناقلي الأمراض إليها إن لم يكن ذلك أكثر خطراً.
الحماية المطلوبة من العمالة غير المؤهلة تتطلب أكثر من مجرد ترتيبات إجرائية داخلية. الحماية الفاعلة في تقديري تتطلب برنامجاً تعاونياً بين البلد المستقدم للعمالة والبلد المصدر لها من ناحية وبين دول الخليج ذاتها من ناحية ثانية علاوة على ما يجب إيجاده من ترتيبات نظامية وإجرائية داخلية.
وما يعزز الحاجة إلى مثل هذا البرنامج هو أن الأغلب الأعم من القوى العاملة الوافدة إلى دول الخليج تعمل لدى مؤسسات وشركات أهلية، تغلب على معظمها الملكية الفردية من ناحية وحداثة التكوين التنظيمي من ناحية ثانية ما لا تتوافر معه الدراية الكافية لدى القائمين على إدارتها بكيفية تحديد الاحتياجات الحقيقية، عدداً ونوعاً ومستوى، من القوى العاملة، الشيء الذي أفضى إلى اجتهادات أغلبها ذات مردودات سلبية دفعت إلى بروزها في وقت قصير شدة الحاجة إلى القوى العاملة مع غياب معايير مسبقة التحديد للتعريف بالأعمال ومتطلبات القيام بها. وأعتقد أن كثيرا من هذه المؤسسات، رغم ما قد يتراءى لبعضها من سلبيات الضبط والتنظيم، ستقدر هذا التوجه لما ستلمسه تدريجيا من انعكاسات حسنة على نتائج أعمالها. والأمر في هذا لا يقتصر على من يعمل لدى المؤسسات والشركات من العمالة الوافدة, إذ يتعداه ليشمل العمالة الناعمة التي تكتظ بها المنازل.
وطالما أن البلدين التي تستقدم منها غالبية العمالة ذات كثافة سكانية عالية واقتصادات متواضعة، فإنها ستكون بالضرورة حريصة على بذل ما تستطيع لإيجاد فرص عمل لمواطنيها, ما يدفعها إلى التعاون مع أي بلد تتوافر فيه فرص عمل بالكم والتنوع والأجور المجزية والمغرية الموجودة لدى دول الخليج، لذلك يجب أن تستثمر هذه الظروف لمصلحة البلدان المستقدمة، وهنا تتحقق مصلحتا البلدين.

أسلوب الحماية
لا شك أن للحماية من العمالة ذات المستويات المتدنية، تأهيلا وسلوكا وأداء، عدة أساليب ترجح الأخذ بأي منها عدة عوامل من بينها طبيعة الحاجة إلى القوى العاملة المستقدمة من حيث العدد والنوع والمصدر ومدة الحاجة وغيرها من العوامل المباشرة وغير المباشرة.
وفي حالة دول الخليج أعتقد أن أحد الأساليب الممكن الأخذ بها تجاه حماية اقتصادها من التأثيرات السلبية للقوى العاملة الأجنبية المستقدمة يتمثل في اتخاذ التدابير التالية:
أولا: وجود مقاييس النوع والعدد من القوى العاملة
1- تبنى مقاييس دقيقة لتحديد الاحتياجات من القوى العاملة بشكل تفصيلي يصل إلى درجة تعريف المتطلبات التأهيلية لكل نوع من أنواع الأعمال التي يستلزم الأمر استقدام عمالة أجنبية للقيام بها والعدد اللازم للوفاء بمتطلبات كل نشاط صناعيا كان أو تجارياً أو خدمياً أو غيره بما في ذلك الخدمة المنزلية.
2- الإصرار على تطبيق المقاييس المعتمدة بشكل حاسم، ولكن للضرورة يمكن أن يكون تدريجياً، تلافياً لردود الفعل أو الانعكاسات غير المحسوبة، وذلك وفق خطة زمنية محددة.
ثانيا: الاستقدام وفق ترتيبات نظامية وإجرائية رسمية بين الدول المستقدمة والمصدرة للقوى العاملة:
بما أن حاجة دول الخليج للعمالة الوافدة منطلقة من اعتبارين أحدهما الحاجة إلى كفاءات غير متوافرة محلياً، وثانيهما لمواجهة حاجة برامجها التنموية، إشادة أو تشغيلاً وصيانة، إلى أعداد أكبر بكثير مما توفره سوق العمالة المحلية من العمالة بمختلف فئاتها المتخصصة والماهرة وشبه الماهرة والعمالة العادية، فإن سد نسبة معقولة من هاتين الحاجتين لن يتأتى قبل ربع قرن من الزمن على أقل تقدير وذلك بناء على الافتراضات التالية:
1- إن إيجاد الكفاءات المتخصصة المدعومة بالخبرة الجيدة يتطلب وقتاً أكثر بكثير من الوقت المخصص لمجرد التحصيل العلمي, سواء النظري أو العملي, خصوصاً أن التقدم متسارع إلى درجة أنه يحد أحياناً من مواكبة برامج تطوير مصادر القوى العاملة لكل جديد.
2-رفع مستوى الاستفادة من التقنية الحديثة في مختلف المجالات الصناعية والإنشائية والخدمية وغيرها بالقدر الذي يغني عن العمالة غير الماهرة يتطلب إدراك أهميته والتخطيط له وتنفيذه وقتاً ليس بالقصير في دول الخليج, خصوصاً أنها ليست منتجة لتلك التقنية.
3- تركيبة السكان العمرية الحالية بهذه الدول ونسبة النمو، على الرغم أنها من أعلى النسب في العالم كنسبة وليست من حيث العدد، لن تمكن من تلبية جميع الاحتياجات القائمة والمنتظرة خلال السنوات المقبلة من العمالة بمختلف مجالاتها ومستوياتها خلال الـ 20 عاما المقبلة مثلاً. ومما يزيد في صعوبة السير في طريق الاكتفاء الذاتي من العمالة تنامي نشاطات القطاعات الأهلية كنتيجة حتمية لتوافر المال من ناحية، وتصاعد الثقة بالاقتصاد المحلي من ناحية ثانية, ما يؤدي إلى زيادة الاستثمار وتنويعه. وهذا بدوره يتطلب قدراً أكبر من العمالة الحالية، وخير دليل على ذلك ما يجرى حالياً من توسع في أعمال الشركات القائمة والاتجاه إلى إنشاء مزيد من الشركات المساهمة أو المشاريع الفردية أو ذات الملكية المحدودة من ناحية ثانية.
4- إن من بين الأعمال المتاحة ما يقع في مجالات عمل لا يقبل عليها المواطن أو يقبل بها الاعتبارات، إما اجتماعية أو وظيفية أو مكانية، خصوصاً في ظل التركيبة العددية والنوعية الحالية للعمالة الوطنية.
وتأسيسا على ذلك، فإن مسألة الاستعانة بالعمالة الوافدة تشكل عنصراً من العناصر الأساسية لاستمرار برامج التنمية وتطورها ما يستدعي بالضرورة إيجاد قنوات للتعاون بين دول الخليج صاحبة الحاجة والدول التي لديها ظروف سكانية واقتصادية تدفعها إلى تصدير عمالتها. ويمكن أن يتم هذا التعاون من خلال اتفاقيات التعاون الاقتصادي المشتركة إن وجدت أو من خلال ترتيبات ثنائية. ويتجسد هذا التعاون في تهيئة الفرص للدول المستقدمة لسد حاجتها من القوى العاملة ذات الكفاءة العالية أو المتوسطة ذات الاستعداد للتطور من الدول المتفق معها وفق ترتيبات تنظيمية داخلية دقيقة وواقعية مقابل التزام تلك الدول المصدرة للعمالة بما يلي:
1- المشاركة الرسمية في اختيار العمالة ذات الكفاءة المحددة من قبل الدول المستقدمة وضمان جودتها، قطعا للطريق على مكاتب توظيف العمالة الخاصة في هذه الدول التي لا تتحرى الدقة في حسن اختيار العاملين المؤهلين حسب المقاييس المحددة ممن طلبها.
2- المشاركة في تحمل مسؤولية استبدال العمالة التي تثبت التجربة العملية، خلال فترة زمنية محددة، أنها ليست بمستوى الكفاءة المتفق عليها، ما يدفع هذه الدول إلى تضييق الخناق على غير الملتزمين بمتطلبات الاتفاق من العاملين في مجال توظيف القوى العاملة.
3- إيجاد برامج توعوية للعمالة المختارة من مواطنيها لتلبية حاجة البلد المستقدم تتركز على عادات البلاد التي سيعملون بها وتقاليدها والأنظمة العامة فيها, خصوصا ما يتعلق منها بالسلوك العام، والعقوبات المترتبة على المخالفات والجرائم، وذلك قبل قدومهم إلى البلد الذي تم التعاقد معهم للعمل فيه.
قيامها بمساندة الدول المستقدمة فيما تتخذه من إجراءات نظامية ضد المخالفين لأنظمة البلاد التي يعملون بها، وذلك بالنسبة للمخالفين من رعاياها الذين صدرت بحقهم أحكام ونفذت وتوقيع العقاب العادل من قبلها على من أفلت من العقاب بالدولة التي ارتكب فيها الجرم أو المخالفة وهدف ذلك إيجاد رادع يساعد الطرفين على توفير مناخ عمل مريح للعاملين في البلاد التي يعملون بها من ناحية واستقرار العمالة واستمرار ثقة البلاد المستقدم فيها, ما يؤدي إلى استمرار استفادة بلدها الأصل من تحويلاتها المالية من ناحية أخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي