Author

جامعة الملك عبد الله. . هل تشكل خطوة في طريق استعادة بريقنا العلمي؟

|
جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية التي يتزامن الاحتفاء بتدشينها هذه الأيام مع احتفال المملكة بيومها الوطني تشكل مؤشرا على تبني المملكة خيار الاستثمار في البحث العلمي, وهو توجه استراتيجي حميد يعبر عنه بوضوح إطلاق هذه الجامعة ''الحلم'' كأول جامعة بحثية في الوطن العربي. وتجسد هذه الخطوة المباركة بوضوح أن البحث العلمي يأتي ضمن قائمة أولويات الملك عبد الله – يحفظه الله - لإدراكه أنه المدخل الحقيقي لاقتصاد العصر الحديث الذي يقوم على المعرفة. وهذا ما يجسد متابعته - يحفظه الله - لتنفيذ المشروع ورعايته حفل الافتتاح الكبير الذي شارك فيه نخبة من قادة وزعماء العالم الأمر الذي عكس بدوره ضخامة الإنجاز من جهة وعالمية هذه الجامعة بما يمكنها من تكريس جهودها لانطلاق عصر جديد من الإنجاز العلمي في المملكة الذي يعود بالنفع على المنطقة والعالم .. وهذا الدور عبر عنه خادم الحرمين الشريفين بقوله: '' .. وستكون الجامعة، باعتبارها بيتاً جديداً للحكمة، منارة للسلام والأمل والوفاق وستعمل لخدمة شعب المملكة ولنفع جميع شعوب العالم''. هذه الانطلاقة المباركة التي تأتي بعد 750 عاما من إطلاق بيت الحكمة الأول تزيد من مساحة التفاؤل في نفوس الكثيرين وتشكل - بمشيئة الله - جزءا من صياغة مستقبلنا الأجمل. هذا الحدث التاريخي المهم يعد فرصة لفتح ملف البحث العلمي في المملكة الذي سأحاول في هذه المقالة التي تنشر على جزءين تناول أبرز جوانبه مع الإقرار سلفا بأن الموضوع أكبر من أن يغطى في مقالة صحافية أو أكثر. لماذا البحث العلمي؟ يشكل البحث العلمي المصدر الرئيسي لتدفق المعرفة التي تولد من رحمها الابتكارات والاختراعات، والتي بدورها تشكل القوة الدافعة للنمو الاقتصادي في المجتمعات الصناعية. وللبحث العلمي شقان متميزيان: الأساسي والتطبيقي مع أنهما متلازمان ومتداخلان إلى حد كبير. فعلى العكس من البحث العلمي الأساسي الذي تنهض به المؤسسات الأكاديمية الذي قد لا تكون له في الغالب فوائد اقتصادية مباشرة لأن أهدافه تتمثل في الكشف عن حقائق جديدة أو تصحيح مفاهيم قائمة، فإن البحث العلمي التطبيقي الذي يطلق عليه أيضا ''البحث والتطوير'' له فوائد اقتصادية مباشرة كونه يركز على تحسين اقتصاديات طرق الإنتاج أو تطوير منتجات وخدمات جديدة أو التحسين المستمر لجودتها. من هنا فإن ''البحث والتطوير'' يعتبر النشاط الأكثر تأثيراً في استمرارية نمو وتوسع أعمال المنشأة الاقتصادية، فمضاعفة الاستثمار في عناصر الإنتاج المادي (رأس المال، قوة العمل، المواد الأولية) تقود إلى زيادة حجم الإنتاج بنسب ثابتة، أما ابتكار منتج جديد أو تطوير عملية الإنتاج - من خلال البحث والتطوير - فإنه يؤدي إلى تعزيز القدرة التنافسية للمنشأة وزيادة عائداتها الاقتصادية بصورة كبيرة جدا. البحث العلمي .. عندهم وعندنا! تولي الدول الصناعية نشاط البحث العلمي اهتماما كبيرا لما له من أثر مباشر على النمو الاقتصادي. وعلى هذا الأساس صار البحث العلمي فيها صناعة لإنتاج الثروة، مسجلا بذلك تحولا عن التوجه القديم الذي يربط رعاية البحث العلمي بتوافر فوائض الثروة. وهذا التحول الرئيسي من فائض الثروة الذي يوجه إلى البحث العلمي الذي ينتج الثروة هو أحد عوامل قوة الدول الصناعية الذي جعلها تتقدم أشواطا كبيرة وتحقق في القرون الثلاثة الأخيرة ما لم تحققه الإنسانية في تاريخها الطويل. وواكب ذلك التحول تجذر قناعة عامة في مجتمعات تلك الدول محورها أن تطورها مرتبط بقيام مؤسسات للبحث العلمي تتمتع بإمكانات مادية كبيرة وحرية واسعة واستقلالية تامة عن السياسات الآنية للدولة، وأن البحث العلمي هو مفصل من مفاصل التحديث لا يحقق النتائج المرجوة منه إلا إذا توافرت له حرية المبادرة الإدارية وحرية المبادرة الفكرية. #2# ومع أن إجراء مقارنة بين البحث العلمي في الدول الصناعية والمملكة - كأحد أبرز الاقتصادات النامية - قد لا تبدو مقارنة عادلة إلا أنها تبقى مدخلا مناسبا لتشخيص واقع هذا النشاط الاستراتيجي في المملكة والاهتمام الذي يستحق أن يحظى به من مؤسسات القطاعين العام والخاص. وهنا سيتم التركيز على مستويات الإنفاق ومصادره ومن ثم نعكف على مقارنة نتائج هذا الإنفاق بما تحقق في عدد من الدول النامية والناهضة. يرتبط حجم الإنفاق على البحث العلمي بمستوى التقدم في البلدان، فالدول الأكثر تقدماً في العالم هي تلك التي تنفق ما بين 1.5 و2.5 في المائة من إجمالي ناتجها القومي على البحث العلمي. وتأتي الولايات المتحدة الأمريكية في طليعة الدول من حيث مستوى الإنفاق على البحث العلمي فهي انفردت بإنفاق نحو 40 في المائة من إجمالي الإنفاق العالمي على البحث العلمي في عام 2007 البالغ نحو 492 مليار دولار. وتليها أوروبا التي تصل حصتها مجتمعة إلى 31 في المائة, ثم اليابان التي تصل حصتها إلى 21 في المائة من مجمل الإنفاق العالمي على البحث العلمي. وحتى لا تبقى هذه الأرقام مجردة، نذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية إذ تخصص 2.5 في المائة من إجمالي ناتجها القومي للبحث العلمي فإنها تنفق عملياً نحو 180 مليار دولار في السنة. أما اليابان التي تخصص 2.9 في المائة من ناتجها القومي للبحث العلمي فإن إنفاقها في هذا المجال يصل إلى 101 مليار دولار في السنة. هذا الإنفاق الكبير على البحث العلمي هو ما يمكن أن يفسر - جزئيا على الأقل - نجاح اليابان في التحول من دولة مستوردة للتكنولوجيا الإلكترونية المتطورة في سبعينيات القرن الميلادي الماضي إلى دولة مصدرة لها في مدى 20 عاماً تضاعفت خلالها صادراتها من منتجات التكنولوجيا المتقدمة أربع مرات متقدمة على صادرات ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مجتمعة. وعلى خطى اليابان تسير اليوم التنانين الآسيوية الكبيرة والصغيرة على حد سواء من خلال التوظيف العالي في مضمار البحث العلمي. وهذا ما يمكن استنتاجه من بيانات جدول رقم (1) حيث يتبين أن نسب النمو السنوي للإنفاق على أنشطة البحث والتطوير من قبل الشركات في الصين والهند خلال السنوات 2002 - 2007 تعد الأعلى عالميا وبنسبة نمو سنوي بلغت 25.4 في المائة على الرغم من أن إجمالي ما أنفقته الشركات على أنشطة البحث والتطوير داخل البلدين لم يتجاوز ثلاثة مليارات دولار تشكل ما نسبته 0.6 في المائة من إجمالي الإنفاق العالمي وهي نسبة متواضعة بالمقاييس العالمية. الأمر نفسه ينطبق على ما تنفقه بقية دول العالم (وفي المقدمة منها التنانين الآسيوية) الذي بلغ في عام 2007 نحو 26 مليار دولار تشكل ما نسبته 5.3 في المائة من إجمالي الإنفاق العالمي على البحث والتطوير. وهنا أيضا يلاحظ أن نسبة النمو السنوي في حجم الإنفاق على البحث والتطوير خلال السنوات الخمس الماضية بلغت 15.4 في المائة, وتعد ثاني أعلى نسبة نمو عالميا بعد الصين والهند. وإضافة إلى مستويات الإنفاق العالية في الدول الصناعية الرئيسية، يساهم المال الخاص بالجزء الأكبر من موازنة الإنفاق على البحث العلمي بنوعيه: الأساسي والتطبيقي. بمعنى آخر أن التمويل الخاص لا يقتصر على نشاط البحث والتطوير ذي العوائد الاقتصادية بل يتعداه ليشمل البحث العلمي الأساسي، وذلك يعود بالدرجة الأساس إلى أن التشريعات القانونية في تلك الدول تتيح للمتبرعين حسم الهبات المقدمة لمؤسسات البحث العلمي من الضرائب المستحقة للدولة، إضافة إلى الشعور بالمسؤولية الاجتماعية لدى المتبرعين النابع من فهم عميق للدور الذي تقوم به مؤسسات البحث العلمي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ففي اليابان مثلا، يشكل التمويل الخاص ما نسبته 77 في المائة من إجمالي موازنة البحث العلمي بشقيه الأساسي والتطبيقي، فيما تشكل تلك المساهمة في الولايات المتحدة نحو 66.5 في المائة من إجمالي موازنة البحث العلمي، وتصل تلك النسبة في كل من فرنسا وألمانيا وإنجلترا على التوالي إلى: 55.8 في المائة، 62.9 في المائة، 66.7 في المائة من موازنة البحث العلمي. أما تمويل نشاط البحث والتطوير الصناعي فيأتي الجزء الأعظم منه من الشركات وتنخفض فيه بشكل ملموس المساهمة الحكومية. ففي اليابان تبلغ حصة التمويل الخاص لبرامج البحث والتطوير الصناعي ما نسبته 97.1 في المائة من إجمالي الإنفاق على البحث العلمي وتنخفض تلك المساهمة نسبيا في الولايات المتحدة إلى 83.4 في المائة، في حين تبلغ هذه النسبة في كل من فرنسا وألمانيا وإنجلترا على التوالي: 81.1 في المائة، 75.3 في المائة، و 87.4 في المائة. #3# هذه البيانات تدفع إلى الواجهة سؤالا ملحاً: ماذا عن مستويات الإنفاق على البحث العلمي عندنا, وما مصادره؟ بلغة الأرقام وعلى الرغم من أن المملكة تنفق بسخاء على التعليم الذي خصص له في ميزانية العام المالي 2009 نسبة 24 في المائة من إجمالي الميزانية، فإن ما خصص للبحث العلمي من خلال بند الخطة الوطنية للعلوم والتقنية البالغ ثمانية مليارات ريال يمثل ما نسبته 0.5 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي يبقى متواضعا أمام الإمكانات الكبيرة للمملكة. وما يفاقم أثر هذه المشكلة أن التمويل الخاص يبدو في حالة ''خصام دائم'' مع نشاط البحث العلمي في المملكة حيث ما زالت الحكومة وفقا لـ ''اليونسكو'' هي الممول الرئيسي لأنشطة البحث العلمي وبنسبة تمويل تقدر بنحو 89 في المائة من إجمالي التمويل, فيما بلغت حصة القطاع الخاص 3 في المائة فقط وجاء 8 في المائة من التمويل من مصادر خارجية. تواضع ما ينفق على البحث والتطوير في المملكة قياسا بالمستويات العالمية أدى - جزئيا على الأقل - إلى ضعف كفاءة مؤسسات البحث العلمي لدينا التي تنعكس على مخرجاتها من الدراسات والأبحاث العلمية التي تتسم في معظمها بالسطحية أو افتقار الجوانب التطبيقية، وهو الأمر الذي يدفع كثيرا من المؤسسات الاقتصادية الوطنية إلى إنشاء مراكز أبحاث خارجية أو الاستعانة بها. ويتجسد هذا الضعف من خلال أحد معايير قياس كفاءة مؤسسات البحث العلمي المتمثلة في عدد براءات الاختراع المتعلقة بابتكارات أو اختراعات مسجلة بأسماء مؤسسات أو باحثين من المملكة مقارنة بنظرائهم في بعض الدول النامية. فوفقا لبيانات مكتب براءات الاختراع الأمريكي خلال الفترة 1986 – 2006 المدرجة في جدول (2) سجل عدد من الدول الناهضة والنامية قفزات كبيرة في عدد براءات الاختراع، كانت الريادة فيها لكوريا الجنوبية وتايوان واللتين سجلت لهما خلال تلك الفترة 6,509 و 7,919 براءة اختراع على التوالي. أما على صعيد النمو في عدد براءات الاختراع خلال تلك الفترة فكانت نسبة النمو الأعلى في كوريا الجنوبية أيضا بنسبة تصل إلى 11,835 في المائة قياسا بمستواها في عام 1986, تليها سنغافورة بنسبة نمو بلغت 11,725 في المائة ثم الصين, بنسبة نمو بلغت 8,818 في المائة نسبة إلى عدد براءات الاختراع المسجلة عام 1986. في المقابل كان عدد براءات الاختراع المسجلة باسم باحثين من المملكة سبع براءات اختراع في عام 1986 ارتفعت لتصل إلى 20 براءة اختراع في عام 2006 وبنسبة نمو خلال تلك الفترة بلغت نحو 286 في المائة وهي نسبة متواضعة جدا عند مقارنتها بالنمور الآسيوية. ولعل المقارنة الأهم تبرز عند مقارنة أدائنا بأداء دولتين هما ماليزيا وسنغافورة وكلتاهما سجلت باسمها أربع براءات اختراع في عام 1986 (أي أقل مما سجلته المملكة في ذلك العام) ارتفع رصيدها من براءات الاختراع في عام 2006 في حالة ماليزيا إلى 131 براءة اختراع وبنسبة نمو بلغت 3,275 في المائة فيما ارتفعت في حالة سنغافورة لتصل إلى 469 براءة اختراع وبنسبة نمو بلغت 11,275 في المائة. الموضوعية تقتضي التأكيد على أن هذه المؤشرات تخص الفترة السابقة ونحن الآن نرى معطيات جديدة - في مقدمتها إطلاق جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية وتخصيص أوقاف لها بقيمة عشرة مليارات دولار - التي تشير بوضوح إلى أن المملكة بقيادة الملك عبد الله تضع البحث العلمي على قائمة الأولويات الوطنية وهي على أعتاب مرحلة جديدة ومختلفة تأخذ فيها المعرفة زمام المبادرة في جوانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية كافة. وسيتم في الجزء الثاني من هذه المقالة تقديم رؤية لما يجب عمله للنهوض بمؤسسات البحث العلمي في المملكة للقيام بدورها كقاطرة للتقدم التقني والاقتصادي في الفترة المقبلة.
إنشرها