ولِدتُ بالسودان أبيضَ، شاهقَ البياض

.. وصلتني هذه الرسالةُ قبل حلول رمضان بأيام، ورأيتُ أن أحتفظ بها لواحدةٍ من المقالاتِ الرمضانية لدروسها وعِبَرها، من السيد «تاج. م. س» البريطاني، من أصل سوداني.. إنها تحكي عن الفشل والمعاناة والإخفاق ثم البزوغ للنجاح بدافع الإيمان الروحي، الذي يولد العزيمةَ الشخصية ليحلـِّقَ الفردُ بآمالِهِ وأعمالِهِ كنسرِ أشمٍّ في السمواتِ المفتوحة.
والرسالةُ كُتِبَتْ بالإنجليزية، وأترككم معها مترجمةً للعربية بتصرفٍ شديدٍ لطولِها، وكنت أشطبُ شيئا من شعوري وأنا ألغي بعضَ الجمل والوقائع التي أوردها سراج، فكلها جواهر لامعة، ولكن الاقتضاءَ هنا يجبرنا على الاختصار، فالعذرُ من السيد سراج، ومن القراءِ الأحباب:
«..  لو أنّ للفشل والإخفاق وطنٌا لكنت أول مواطنيه الشرفيين.
عشتُ فاشلاً ومختلفاً طيلة حياتي. وليس خفيّاً معنى الفشل والإخفاق، ولكنك قد تستغرب كلمة «مختلف»، ولك الحق. والاختلافُ بدأ منذ تنفـَّسَتْ رئتايَ أولَ نسمةِ هواءٍ في مستشفى متواضع في أم درمان السودانية، لقد شهقتْ الممرضة، كما تروي والدتي، لما خرجتُ من بطنها، فأمي بالبشرة والنكهة اللونية السودانية العامة، وأنا طلعتُ طفلاً شاهقَ البياض. طبعا لم تعرف الممرضة أن أبي هو من أهل فلسطين النازحين، وكان يعمل حيث عملت والدتي وهي من المتعلمات النوادر آنذاك، وتحابا وتزوجا. كان والدي أصفر الشعر، بعيونٍ زرقاء. خرج لمهمةٍ يوما، ولم يعد أبدا.. لم أرَ والدي ولم أعرفه، ولكن بقيَتْ البشرةُ الساطعة تضع توقيعَه الجينيّ علي.. وكان هذا أول إخفاقٍ في حياتي: طفلٌ أبيض في بحرٍ من السمار، ولم يكتمل اليتمَ ولا الأبوة.. وأول ما تراني فستشعر أني إفريقيٌ متلفعٌ ببياض الثلج.. مع شعر يميل للاحمرار بالغ التجعيد. تجمعتْ بعروقي، وبشكل متعارض، الدماءُ الإفريقيةِ والدماءُ الشمالية..
لم تكن حياتي سهلة أبدا، فأنا معْرَضٌ آدميٌ متنقل لا تبتعد عني العيون. توفيت والدتي بعد أن حصلتُ على الثانوية بالإعادة، وقررتُ أن أهاجر (ويورد سراج قصة هجرته لبريطانيا، وليس الآن مكانها)، وكانت لندن هي الحلم. وصلتُ لندن عام 1967م، وعلمت أن العربَ خسروا معركة فاصلة مع الدولة اليهودية، وكنت شاباً نافراً، فجعلني هذا أبتعد عن كل شيءٍ يتعلق بالعرب، وعشتُ في لندن كذبة كبرى بأن أبي إنجليزي، وابتعدتُ عن كل ما هو في أصل جبلـّتي: الدمُ، والانتماءُ و.. الدين.
في بريطانيا، وباقتدارٍ، تابعتُ رحلة الفشل والإخفاق. لم أستطع أن ألتحق بأي مدرسة، وعملت في كل الأعمال حتى تنظيف دورات المياه العامة، وكنس الطرقات، وتنظيف عربات القطارات، ورفع فضلات خيول السباق، وكل مرةٍ  أطرَد من عملي، لأني ملولٌ وسريعُ الاشتعال، ولا أجيدُ المحاورة، ولأن لي جسد مصارع فإني أتفاهمُ بالعنف. ثم اشتركتُ في العمل تحت الأرضي مع عصابات القمار، ثم عصابات تصفية الديون، ثم حراسة الأماكن الملوثة ـ وتنقعتُ بالقذارة. ثم أدمنت المخدرات، وضاعت طاقتي، ولم أعد أصلح لشيء.. مرضتُ يوماً، وكان رجل هندي قد عرفته، وهو الوحيد الذي قدمتُ له خدمة طيبة، لاقاني متعباً على قارعة الطريق بجانب محلِّه، وأخذني لمستشفى يديره أطباءٌ مسلمون من باكستان والهند ومصر. وهناك بدأ علاجي لمدة شهر متواصل، وكان الطبيبُ المصريُ صلباً خشِناً، لا يعطيني الإبرةَ المخففة (في سبيل الإبراء من الإدمان) إلا بعد أن أتوضأ وأقرأ القرآن الكريم.. وكنت مجبراً خوفاً وتلهفا للإبرةِ، ف.. أفعل. مع الوقت صرت أتذوق الحروفَ العربية الجميلة وأفتقدها وأبكي متذكرا وطني وطفولتي ووجه أمي التي كان القرآن دوما في حضنها، فمن المعروف قوة تدين الشعب السوداني. ثم عادت لي المعرفة التامة بالقراءةِ العربية، والطبيب المصري الخشن يصر على أن أكتب وأقرأ وأن أجوّد الكلمات، وأن أحرص على الصلوات الخمس، ثم صار يأخذني بيدِه للمسجد.. وبدأتُ بالتغيير، ثم صار ذاك الطبيبُ الخشن يتحول شيئا فشيئا بعيني إلى.. ملاك.
وأنا أقرأ القرآن يوماً في المستشفى، وقعتُ على هذه الآية: «وقُل اعملوا فسيرى اللهُ عملـَكم ورسولـُهُ والمؤمِنون». فكانت الثورةُ العظمى بكلّ وجودي.. وخرجت من المستشفى عازماً على النجاح.
 أخفقتُ كثيرا، وجابهتني صعوباتٌ لا تسعها حتى ذاكرتي، حتى بدأتُ بتوفيق من الله أول صفقة نجاح.
والطبيبُ السوداني «أ.ح. ط» صديقـُكَ، تعارفنا حين أقمنا عملا خيريا في مدينتنا المشتركة، ونصحني بالاطلاع على مقالاتك، وقرأتُ في أحدها وأنت تتساءل مع قرائك عن الحظ والصدفة. وهنا قررتُ أن أكتب إليك قصتي.. ليس هناك حظٌ ولا صدفةٌ، إنه فقط الإيمان، وتوفيق الله تعالى حين تعمل من أجلِه، وحين تلبِّي أوامرَه، أمرَني بالعمل، فعملت.
الآن، إحدى شركاتي للمعلومات بعتها أخيراً بخمسةِ ملايين جنيهٍ استرليني.
حبيبنا سراج: صدقتَ، ولعلّ بشرتك التي وصفتها بالبياض قد تكون رمزاً سماوياً لما ستقوم به، من أجل دينِك ومن أجل ناسِكَ، من أعمالٍ بيضاء!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي