تآكل الخصوصية وانتهاكها

كان الناس يعرفون بعضهم كونهم يقيمون في قرى صغيرة، ويسكنون منازل متقاربة، ويتمتعون بتواصل فيما بينهم، تربطهم علاقات قوية، لدرجة تُقلص دائرة الخصوصية privacy، لذلك يُقال: "أهل قريّة، كل يعرف أخيّة"، وفي هذه البيئة الريفية الطابع, تكون الخصوصية محدودة، لأن جميع الأقارب والجيران يعرفون تفاصيل الحياة الخاصة ببعضهم بعضا.
ولكن هذه العلاقات لم تلبث أن ضعفت خلال مرحلة التحول إلى الحياة الحضرية، نتيجة نمو المدن وتوسعها، فلم يعد الشخص يعرف جاره أو يتواصل معه، إلا ما ندر. ويتسم هذا النمط من الحياة بالاعتماد على الفردية بدلاً من روح الجماعة السائد في نمط الحياة الريفية. وكسمة من سمات الحياة الحضرية، يتمتع الإنسان بمستوى خصوصية مرتفع، لدرجة استغلال هذه الخصوصية من قبل ضعفاء النفوس لارتكاب بعض الجنح والجرائم.
ولكن هذه الخصوصية في المدن لم تصمد أمام اجتياح رياح التغيير التقني، فتآكلت وانكمشت حتى أصبحت خصوصية الإنسان عرضة للانتهاك من قبل (مجهولي الهوية) في كل مكان، فخصوصيته معرضة للخطر وهو في منزله يتصفح الإنترنت من خلال إمكانية اختلاس صور العائلة أو سرقة أرقام حساباته البنكية، والخصوصية – أيضاً - مهددة بالانتهاك عندما يذهب لأحد المطاعم لتناول وجبة عشاء، أو يجلس مع عائلته في إحدى الحدائق، والأدهى أن تنتهك خصوصية الإنسان وهو في حالات ضعفه كسقوطه أو إصابته في حادث مروري.
ويزداد هذا الانتهاك (أو الإرهاب) ضد الخصوصية الشخصية مع اختلال القيم، وتدني الأخلاق، وضعف الدين، وإساءة استخدام التقنية، خاصة عندما تتوافر كاميرات الهاتف النقال في أيدي ضعاف النفوس. فيتصيدون هفوات الناس وزلاتهم، ويقتنصون غفلتهم أو ضعفهم لالتقاط الصور أو التسجيل الصوتي، لا لهدف نبيل، بل بغية الابتزاز أحياناً، أو لمجرد اللهو والتلذذ بالكشف عن خصوصيات الآخرين أحياناً أخرى، أو حتى لتداولها على البلوتوث blueTouth أو نشرها على شبكة الإنترنت في مواقع الصور ومقاطع الفيديو، مثل اليوتيوب.
في الماضي كانت الفضائح تُنشر - على نطاق ضيق – في الصحافة الصفراء التي تقرأ في اليوم التالي، ثم تختفي أو تلف بها أطعمة الفقراء، وبالتالي ينسى كثير من الفضائح، لصعوبة استرجاع الوثائق الورقية وتداولها. أما الفضائح في الوقت الحاضر فقد أصبحت "لا تمحى"، فهي موجودة على شبكة الإنترنت بشكل دائم وفي متناول من يبحث عنها في جميع أصقاع المعمورة. وهذا يزيد من خطورتها ووقعها السلبي على الأطراف المشتركة فيها، فلم يعد "الزمن كفيل بنسيان الماضي".
نحن نمر بأزمة أخلاق هي من ضرائب التحضر والتقدم، ونتيجة (تفوق البعض) في إساءة استخدام التقنيات، و(نبوغهم) في توظيف المخترعات لغير الأغراض التي صنعت لأجلها، فتطل علينا وسائل الإعلام في كل صباح بفضيحة أو ابتزاز أو انتحار. والجهات المسؤولة تبذل جهوداً مشكورة في متابعة بعض القضايا لردع المخالفين، وإنزال العقوبة بمرتكبي هذه الأعمال الدنيئة. ولكننا – مع الأسف – سنرى مزيدا في المستقبل، فمع تطور تقنيات التصوير والتسجيل ستتضاعف هذه القضايا، وستزداد أعداد الضحايا، مما سيتطلب وقفة مع أنفسنا، ومراجعة لأساليب تربية أبنائنا، فلا بد من تربية أبنائنا على احترام الآخرين، وتقدير ظروفهم، فالتربية على القيم العربية الأصيلة والتعاليم الإسلامية النبيلة هي الحصانة الأقوى، خاصة أن ديننا وقيمنا تحث على مكارم الأخلاق، وتنهى عن هذه الممارسات الدنيئة.
ولا جدل بأن مزيداً من التغيير - لا محالة - قادم، ودائرة الخصوصية، سواء بالنسبة للأفراد أو الدول، مهددة بالانكماش والتآكل، مما سيضطر الناس إلى قبول أمور لا يتقبلونها في الوقت الحاضر. ولكن نتمنى في الوقت نفسه أن نرتقي جميعاً بأخلاقنا، وأن نجتهد في استغلال التقنيات الحديثة والمخترعات الجديدة لأغراض مفيدة، والأهم من ذلك أن نعامل الناس بما نحب أن نُعامل. وأخيراً، أقدم التهاني للقراء بحلول شهر رمضان المبارك، داعياً المولى أن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي