هندسة المدن وثقافتها.. هل من تطابق؟!

مما لا شك فيه أن هوية المدن تعكس هوية ساكنيها، وعلى مر القرون كانت المدن الإسلامية شاهدا على الحضارة الإسلامية وتعميق فنونها ورمزها الفنية بعيدا عن التماثيل والأصنام مثلا، كما هي الدراسة الضخمة لعلم الاجتماع الروسي الأصل الأمريكي الجنسية بيتر يم سروكن الذي أعدها حول ثقافات عدد من الحضارات، عنوانه (الديناميات الاجتماعية والثقافية) وميز بين كل عهد وآخر بما يميزه من رموز وما يكون على السطح من قضايا في الشعر والرسم والنحت والموسيقى والرواية والاقتصاد وجميع ما يعتبر مؤشرا للثقافة في كل عصر، ووضح في هذه الدراسة تعريفه للثقافة وكيف أن الفكرة الأساسية للنسق الثقافي الاجتماعي الفوقي نسيج المجتمع والثقافة، فإذا عرفنا ما هو النسق السائد في المجتمع في تلك المرحلة، أصبح بالإمكان معرفة واستنتاج الطبيعة العامة لفنه، وموسيقاه، فلسفته، أخلاقه، وكذلك الأنواع السائدة من العلاقات الاجتماعية فيه، وبهذه الطريقة يمكن حسب قوله اتباع المنهج العلمي في تناول أسلوب الثقافة هنا هي وفي هذه الدراسة نجد أن المجتمعات تمر بعدة مراحل من فكرية ومثالية وحسية تجسد نمط الحياة في كل مرحلة وفقا لما يسود حياة البشر في كل مرحلة. ويرى أيضا في تحليلات معمقة عن هذه المراحل أن للواقع الثقافي والاجتماعي جانبا فوق حسي، وفوق عقلي، وفوق منطقي، ويتمثل هذا الجانب في الأديان الكبرى، والأخلاق المطلقة، والفنون الجميلة العظيمة. هنا نجده يوضح أثر الأديان في الحياة العامة للمجتمعات وثقافتها.
ومن يزر قرطبة في إسبانيا يجد هذا التوثيق الجمالي على مستوى المباني والهندسة والفنون بعيدا عن الانسلاخ من القيم الثابتة التي تؤطر الحياة والناس ساكني هذه القصور . وهنا لا أتحدث عن مراحل الترف التي غشيت تلك المرحلة السابقة لانهيار الحضارة الإسلامية وتمزيق الدولة الإسلامية ولكن أحصر نقاشي في هندسة المباني وجمالياتها التراثية التي تجسد الحس الجمالي بالتراث الإسلامي.
وما يلفت نظري أن جميع المدن في مجتمعاتنا العربية والخليجية على وجه الخصوص لا تعبر عن هذه الروح الجمالية فهي نموذج ممسوخ من مباني الدول الغربية التي تنحسر لديها المساحات الواسعة فتلجأ لناطحات السحاب، ونسخنا نحن في مجتمعاتنا الخليجية هذا النموذج وطبقناه دونما احتياج حقيقي له وتحولت المباني لمن ينظر إليها من بعيد كأنها (علب كبريت متقاربة بشكل بعيد عن أي جمال أو تعبير عن روح ساكني هذه المدن المسلمين الذين لديهم تراث جمالي في هذه الفنون).
مدننا لا تعبر عن ثقافتنا ولا عن احتياجاتنا الحقيقية بصفتنا مواطنين ولسنا جميعا أثرياء لدينا أموال تؤهلنا للشراء أو لسكنى هذه المباني!!
مدننا بشكل عام انتشرت فيها هذه المباني الضخمة بأشكالها المكعبة اللامعة التي تزيد من استقطاب الحرارة الشديدة في مدن ملتهبة على مدار العام إلا للقلة من الشهور، وهذا يتطلب تبريدا على مستوى عال يتطلب أيضا ضخا للكهرباء يفوق احتياجات هذه المدن ويسبب نقصا لبقية المنازل!!
ناهيك عن انتشار هذه المراكز التجارية الضخمة التي لم تعد للتسوق بل لتناول القهوة والمأكولات السريعة، فمن لديه المقدرة المالية لشراء البضائع المعروضة والمستورة!! لا يشترون منها بل يذهبون إلى مدن الموضة الغربية لشراء احتياجاتهم من هناك في مظاهر بذخ، يقابلها مشاعر الاستياء من هذه البضاعة المنتشرة في المدن المحلية!! في حالات تستوجب دراسات علمية ضخمة لمعرفة أسباب هذا التورم في الذات المرفهة والمنتشية بمالها ليس إلا!!
لدينا بشكل عام عملية انفصام اجتماعي لدى بعض الأثرياء على وجه الخصوص، فهم الذين يهندسون هذه المباني الضخمة بافتقادها لأقل مستوى من الجمال والذوق المرتبط بثقافة المجتمع الإسلامي وليس الغربي. وهم من يديرون أموال هذه المدن، ولكن في الوقت نفسه، كما ذكرت غزالة عرفات الأستاذة الجامعية في حواراتها مع الصحافية الألمانية "شارلوتة" في مقالتي السابقتين, هناك انفصام بين الأثرياء والفقراء وكأنهم من مجتمعين منفصلين وبيئتين مختلفتين!!
وهناك ثقة في مستشارين من خارج هذه الحدود الجغرافية عن أبناء الوطن رغم أن معظمهم ليسوا على مستوى مخلص كما هم أبناء الأرض الواحدة!! بل مازلنا نثق بكل صيحة من الغرب تنادي بضرورة (تحضرنا وفق نموذجهم فبدأنا نتخلى تدريجيا عن بعض منهجيتنا الاجتماعية علنا نرضيهم!!) والتحضر لا يتم وينجح دون الحفاظ علي الهوية الدينية والاجتماعية والثقافية وإلا تحولنا إلى أحد النماذج التي درسها بيتر يم سوركن!!
التناقضات التي استعرضتها سابقا في مقالتي السابقتين لا تقتصر على المجتمع الباكستاني والألماني مثلا بل تمتد لتحتوي حياتنا - نحن المسلمين - بشكل عام واختلافاتنا مع الغرب الثقافية والاجتماعية وبالطبع العقدية.
لقد عبرت عن شيء من هذا الواقع الذي أصبح ميسما لمعظم مدننا في الخليج إحدى الكاتبات الإماراتيات في تحليلها للواقع الاقتصادي الذي تعيشه إمارة دبي من خلال الأزمة المالية العالمية التي مرت بها، وكيف أدت إلى الهروب منها بطرق كثيرة واختفاء الوجوه التي لا تفهم في الاقتصاد!!
وكيف أن الأزمة المالية أصبحت سيدة نفسها في كل المواقف، وقفت لتكشف الباطل وتخترق جدار عزلة الاقتصاد لدول الخليج وبالذات إمارة دبي التي تعد نفسها مركزا ماليا عالميا قام على أساس مبان مزخرفة على آخر طراز وتديره عقول لا تفهم حتى الفرق بين الاقتصاد والاستثمار، اللهم إلا أنه نعمة مفاجئة هبطت عليهم من السماء لم يحافظوا عليها – كما تقول – وتشرح الفرق بين اهتمام الغرب بمعاناة مواطنيهم بقولها كل يوم ومنذ بدء الأزمة المالية تحولت بريطانيا وكثير من الدول الأوروبية التي سافرت إليها خلال رحلات عمل كخلية نحل، يتحدث الصغير والكبير عنها، الموظف والمستثمر، كل شاشات التلفاز تجديد للأخبار وتحليل، وأيضا الدخول في الخط لكشف معاناة المواطنين ممن خسروا وظائفهم والبعض تجارتهم، وتشعر أن رئيس الوزراء البريطاني لا يغمض له جفن ولا يهدأ، وكل اللوم والسب والتنكيل له في جميع وسائل الإعلام البريطانية لا تهدأ ولا تتوقف. وتقول:
(الأزمة نظام عالمي مخطط لإلغاء ما يسمى بنظام النقد والسيولة في العالم والاعتماد فقط على البطاقات الإلكترونية، الأزمة لن تنتهي في غضون سنة أو سنتين أو حتى ثلاث بل سنوات طويلة حتى تحقق أهدافها المرجوة، الأزمة العالمية قد بدأت تؤتي ثمارها بالوقوع في فخ الديون وهبوط سعر النفط لتكون مجتمعاتنا أداة سهلة في يد صندوق النقد الدولي الذي سيملي علينا بعد ذلك شروطه، وتتساءل عن دور الخبراء الذين يتقاضون الملايين شهريا بالتحذير من هذه الأزمة ومخططاتها وأهدافها ونتائجها العكسية على دول الخليج في المقام الأول وهي المستهدفة.
أردت هنا أن أقول هذا التناقض بين تقليدنا الغرب في ناطحات السحاب، وإخفاقنا أن نكون في مستوى احتوائه لمعاناة مواطنيه في الأزمات، لن يجدي نفعا عنده أي فرق بين ثقافتنا وهندسة مدننا الهجين!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي