منطقية الربط بين سعر البنزين واستهلاكه

تلعب العلاقة بين الطلب على السلعة والعرض منها دوراً كبيراً في تحديد سعر تلك السلعة. فبافتراض اكتمال شروط المنافسة التامة فإن زيادة العرض من السلعة مع بقاء الأشياء الأخرى على حالها ستؤدي إلى انخفاض السعر والعكس صحيح في حالة انخفاض العرض. أيضاً فإن زيادة الطلب من السلعة مع بقاء الأشياء الأخرى على حالها سيؤدي إلى زيادة سعر السلعة التوازني. وفي كلتا الحالتين ستلعب قوى العرض والطب على موازنة السعر إلى أن يبلغ السعر التوازني الذي يتحدد بالتوازن بين الكمية المعروضة من السلعة والكمية المطلوبة منها.
لكن تلك القاعدة تعتمد بشكل كبير على الافتراضات المتعلقة بها، لذلك لا يمكن استخدامها بشكل مباشر في تحديد السياسات المتعلقة بكل سلعة دون النظر إلى عوامل أخرى تتعلق بالسلعة نفسها كنوعية الطلب عليها من حيث إنه ضروري أو عادي. لذلك يستخدم الاقتصاديون مصطلحاً آخر لفهم واستيعاب درجة تأثر سعر السلعة بقوى العرض والطب وهو مرونات الطلب السعرية. ومرونة الطلب السعرية تعني درجة استجابة الطلب على السلعة نتيجة التغير في سعر تلك السلعة. وبناءً على تحليل مرونات الطلب السعرية، سنجد أن الطلب على السلع يختلف من سلعة إلى أخرى اعتمادا، كما أشرت على نوعية هذه السلعة سواءً كانت ضرورية أو عادية.
ففي حالة السلع العادية فإن الطلب على السلعة سيكون مرناً بدرجة معينة، حيث إن الكمية المطلوبة ستستجيب بدرجة مساوية أو أكبر من نسبة التغير في السعر. أما في حالة السلع الضرورية فإن مرونة الطلب السعرية ستكون أقل وبالتالي فإن استجابة الكمية المطلوبة للتغير في السعر ستكون أضعف. إضافة إلى ذلك، فإن مرونة السلعة سواءً كانت عادية أو ضرورية تتأثر بشكل كبير بمدى توافر البدائل لها، فكلما توافرت البدائل ارتفعت مرونة الطلب السعرية لها وأصبحت أكثر تأثراً بالسعر.
اعتماداً على ما أشرت إليه فإنه يمكن لنا تحديد السيناريو المتعلق برفع أسعار المشتقات النفطية وخصوصاً البنزين الذي يطرح وبشكل قوي في الوقت الحالي وكوسيلة للحد من هذا الاستهلاك. إذ تنطلق تلك الأطروحات من حقيقة مسلم بها وهي أن السعر المنخفض للبنزين أسهم وبشكل كبير في زيادة الاستهلاك منه مما أدى إلى تجاوز حجم الاستهلاك القدرة الإنتاجية لمصافي تكرير النفط داخل المملكة، وبما قد يحول المملكة قريباً إلى مستورد للمشتقات النفطية.
نعرف جميعاً أن البنزين سلعة تستهلك لهدف واحد هو توفير القدرة على التنقل من مكان إلى آخر. أي أنه لم يسبق لأحد أن رأى شخصاً يرش سيارته بالبنزين ليغسلها، أو يسقي نخل منزله وبإسراف بالبنزين، كما لم يسبق لنا أن رأينا أن البنزين يتسرب من المحطات أو من السيارات بشكل يؤدي إلى استنتاج أن هناك استهلاكا غير مسؤول لهذه السلعة. إذاً فنحن جميعاً متفقون على أن الاستهلاك للبنزين ينحصر بشكل عام في الاستخدام الضروري المتعارف عليه في السيارات بهدف التنقل.
ومن هذا المنطلق فإن المغالطة الكبيرة التي يقع فيها الكثير ممن تناولوا قضية استهلاك البنزين هي افتراضهم أن السعر المنخفض هو المسبب الرئيس وهو الحل لمسألة ارتفاع الاستهلاك. ولنفترض أنه تم رفع سعر البنزين وبمعدل الضعف، فما الذي يجعلنا نتوقع وبشكل مؤكد أن الاستهلاك سينخفض؟ هل سيتوقف الناس عن الذهاب إلى أعمالهم؟ أم هل ستتوقف الشركات عن نقل بضائعها بالسيارات وستتحول إلى الجمال؟ البعض يزعم أن ذلك سيؤدي إلى أن يقلل فئات الشباب من استخدامهم للسيارات دون حاجة أساسية لذلك، ولنفترض أن ذلك صحيح، فكم تمثل نسبة الشباب الذين يستخدمون السيارة للتسكع وكم تمثل نسبة استهلاكهم من الاستهلاك العام.
إن البنزين سلعة ضرورية لذلك فإن مرونة الطلب السعرية عليها منخفضة جداً، بمعنى أن تأثرها بزيادة سعرها لن يكون كبيراً كما أن خفض سعرها لن يؤدي إلى زيادة الاستهلاك بشكل كبير. حيث إنه ليس من السهل اتخاذ قرار التحول عن استخدام السيارة إلى استخدام وسيلة نقل أخرى بافتراض توافرها. لكن الأمر يزداد سوءاً إذا لم تتوافر هذه البدائل، كما هو الحال في المملكة، وبالتالي تكون مرونة الطلب السعرية منخفضة جداً. إذاً ما الحل لكي يتم تخفيض الاستهلاك من البنزين؟
الحل سيكون بزيادة سعر البنزين بشكل كبير جداً قد يتجاوز قدرة الكثيرين المالية وبما يسهم في تخفيض الطلب عليه بشكل ملحوظ. إذ إن أي رفع بسيط لسعر البنزين لن يكون له أثر ملحوظ على حجم الاستهلاك وسينحصر ذلك التأثير في مزاحمة فاتورة الإنفاق الاستهلاكي للمستهلك مما سيؤدي إلى التأثير في النشاط الاقتصادي العام. وحينها، سيكون لهذه الزيادة الكبيرة آثار اقتصادية سلبية ستتجاوز بالتأكيد الفوائد المتحصل عليها من جراء تخفيض حجم الاستهلاك.
فمن ناحية، يتوقع أن تزداد البطالة بشكل كبير، إذ إن كثيرا من أصحاب الدخول المنخفضة سيجدون أنه من غير المجدي الاستمرار في أعمالهم إذا كانت النسبة الكبرى من دخلهم تذهب لتكاليف المواصلات. ومن ناحية أخرى، سيؤدي ذلك إلى التأثير المباشر أو التراكمي في أسعار السلع والخدمات في وقت تحاول فيه الدولة الحد من التضخم من خلال حزم الدعم المقدمة، مما سيشكل ضغطاً كبيراً على الدولة لزيادة هذه الدعم وتوسيع نطاقه "وكأنك يا أبو زيد ما غزيت"!!
وقبل أن نحاول حل مشكلة الاستهلاك المرتفع للبنزين بالقفز إلى سياسة رفع سعره، يجب علينا أولاً أن نتساءل عن طبيعة هذا الاستهلاك، والذي سأتناوله في مقال قادم ـ إن شاء الله ـ، وعن الحلول الأخرى التي قد يكون لها تأثير فعلي في حجم الاستهلاك كتوفير وسائل النقل العام خصوصاً في المدن الكبرى المزدحمة بالسكان، والتي قد تكون بديلاً أمثل للكثيرين للذهاب إلى أعمالهم وكما هو حاصل في الكثير من مدن العالم. إضافة إلى ذلك، يتوجب الحديث بشكل جدي عن مواصفات السيارات من حيث استهلاكها للطاقة وعن توفير بدائل ترشد من هذا الاستهلاك كسيارات الهايبرد التي تعمل بالكهرباء والبنزين وبشكل تبادلي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي