مجلة "المنهل".. بين يدي خادم الحرمين الشريفين!
تعد الصحيفة أو المجلة بمثابة مدرسة مفتوحة تنثر عبير الثقافة والمعرفة بين الألوف بل بين الملايين من الناس، والصحيفة كذلك لسان حال الناس الذي يخاطب الحكومة ويتفاهم معها لتحقيق مصالح الناس وتنفيذ برامج ومشاريع الأمة، كذلك تقوم الصحيفة بوظيفة الإعلام والإخبار لشريحة عريضة من المجتمع، وهى فوق ذلك تربي وتعلم شعباً بأكمله.
قبل أن يصدر نظام المؤسسات الصحافية كانت في حياتنا قصص مبهرة لإصدار الصحف التي ولدت مع تباشير ميلاد السعودية، ومنها ـ على سبيل المثال ـ أن عبد القدوس الأنصاري تقدم إلى النائب العام للملك في مكة المكرمة (الملك فيصل ـ يرحمه الله ـ) يلتمس الموافقة بإصدار مجلة تعنى بالآداب والآثار والتاريخ وتصدر شهرياً من المدينة المنورة.
وتجاوباً مع هذا الطلب رفع النائب العام الملف إلى المقام السامي، وصدرت الإرادة الملكية بالموافقة على إصدار المجلة بالنص الآتي "لا بأس على إصدار المجلة ولكن بشرط أن يتجنب فيها أمر السياسة والاعتراضات على الحكومة، وألا يتعرض لأي دولة من الدول ولا الحوادث التي تحصل بين الممالك المستعمرة والدول، وإنما هو في الأمور الأدبية والحث على المصالح الداخلية أو أمور الدين خصوصاً على مذهب السلف الصالح، وغير ذلك ليس له حق أن يتداخل فيه، وإذا تعدى ذلك فيحصل عليه جزاء". ويمضي الأنصاري في حديثه عن ظروف إصدار المجلة فيقول: إن هذا التوجيه الكريم كان محل اهتمامي الشديد، ولكنه كان في حاجة إلى ترخيص بالإصدار، وحينما طلبت الترخيص لم يصدر في صورة قرار، بل صدر في شكل صك شرعي (حُجّة) بمنحي حق إصدار المجلة.
وفي شهر ذي الحجة من عام 1355هـ (1937م) صدر العدد الأول لمجلة "المنهل"، وجاء في افتتاحية العدد الأول: أمّا بعد فإن من دلائل نجاح "المنهل" أن تكون أول مجلة أدبية ثقافية من نوعها تصدر في المملكة في عهد حضرة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية الذي جعل مبدأه الحميد أن يأخذ من أسباب المدنية الحديثة كل جديد نافع وصالح لأمته، مع الاحتفاظ بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف والاستضاءة بهديه القويم، ففي هذا العهد السعيد نرى الأمة قد بدأت تتحفز للوثوب إلى استعادة مركزها التاريخي الرفيع في مرافق الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعمرانية، وفي هذا العهد الميمون شاهدنا الأدب السعودي يخطو إلى الأمام خطوات واسعة ملؤها الطموح والاستبشار والابتهاج، ويقول الأنصاري إن الملك عبد العزيز كان دائم السؤال عن أحوال المنهل، حينما كنت أتشرف بالسلام عليه في قصره العامر في جدة، وكان دائم التوجيه والترشيد مما دعم مسيرة المجلة وقوى عزائمها على مر الشهور والسنين.
وفي يوم من الأيام كنا معاً في مجلس الشاعر الكبير الأمير عبد الله الفيصل ـ يرحمهما الله ـ فسألته كيف استطاع أن يستقطب الأمير عبد الله وينشر بعض قصائده في "المنهل"، فقال: لقد تشرفت المنهل بنشر بعض قصائده العصماء، لأنّ ديدن "المنهل" دائماً استقطاب الشعراء والأدباء الكبار في المملكة وفي العالم العربي، والأمير عبد الله من الكبار الذين لا يغيبون عن المجلة الكبيرة. وحينما اقترب عمر المجلة من النصف قرن انتقل عبد القدوس الأنصاري إلى الرفيق الأعلى، وترك لنا "المنهل" وهى في عز شبابها.
ولقد استمرت المنهل في الصدور وما زالت حتى بعد وفاة مؤسسها عبد القدوس الأنصاري، ثم وفاة ابنه الوحيد نبيه بن عبد القدوس الأنصاري، ويقوم على إدارتها وتحريرها حالياً الحفيد زهير بن نبيه بن عبد القدوس الأنصاري.
وفي هذه الأيام تستعد مجلة "المنهل" للاحتفال بعيدها الماسي بمناسبة مرور 75 عاماً على صدورها.
والحقيقة حينما نتابع مراحل استمرار صدور "المنهل"، وبالذات بعد أن انتقل مؤسسها إلى الرفيق الأعلى.. نجد أن هناك كفاحاً مضنياً تجشمته ورثة عبد القدوس الأنصاري لضمان استمرار الصدور بالمستوى الرفيع نفسه الذي كانت عليه المجلة في عهد المؤسس.
لقد كانت المجلة تعتمد في مواردها على بندين لا ثالث لهما وهما معونة وزارة الثقافة والإعلام ثم الإعلانات، أمّا التوزيع فكانت المجلة تعاني منه الأمرين، لأن عشاق الثقافة والتاريخ والأدب طفقوا يتراجعون وبات الكثير يغيّر وجهته إلى الإنترنت، ولم تستطع المجلة الاحتفاظ إلاّ بقلة قليلة من محبي الشعر والأدب في مناطق متفرقة من المملكة.
وفي السنوات العشر الأخيرة تهتكت قواعد بندي الإيرادات حيث صدر قرار مجلس الوزراء ـ مع بداية الألفية ـ بإلغاء الإعانات التي كانت وزارة الثقافة والإعلام تقدمها للصحف والمجلات، وبدأ الإلغاء بواقع 25 في المائة سنوياً، وكانت مجلة "المنهل" أكثر المتضررين من هذا القرار لأن بند الإعلانات لم يكن مزدهراً كما هو الحال في الصحف اليومية، بل كان الإعلان يتسلل إلى المجلة على استحياء شديد، وربما من باب المجاملة لصاحب المجلة في البداية ثم انحسر وتوقف على عدد محدود من الشركات الكبرى.
ولذلك تعاني المجلة حالياً أزمة مالية خانقة أدت إلى انسحاب كثير من الكتاب الذين ربطوا استمراريتهم مع استمرار صرف المكافآت التي كانت تعد بالنسبة لهم مورداً من مواردهم المالية المهمة.
وإزاء هذه الظروف المالية القاسية آثر الورثة استمرار المجلة على بقاء العمارة التي كانوا يملكونها في منطقة الشرفية.
وهكذا شاءت الظروف المالية العصيبة أن تحول المالك إلى مستأجر، وظل سيناريو القسوة المالية يقتطع ـ مع الأيام ـ من هذا الكيان الثقافي الكبير حتى جاء صليل أسعار الورق وارتفاع تكلفة الطباعة فزاد الطين بلة مما اضطر أصحاب المجلة إلى اتخاذ القرار الصعب بإصدار المجلة شهراً بعد شهر بدلاً من إصدارها شهرياً.
وفي هذه الظروف المالية القاسية التي تمر بها المجلة اختطفت يد المنون نبيه بن عبد القدوس الأنصاري، وبذلك دخل الجيل الثالث من بيت عبد القدوس الأنصاري في إدارة شؤون أول مجلة أدبية تاريخية في السعودية.
إننا نضع هذه المجلة التاريخية والثقافية الأولى بين يدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ونلتمس منه أن يصدر أمره إلى وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة للمساهمة في إنجاز مشروع مبنى المجلة الذي يتطلع إلى بنائه أحفاد العلامة الجليل عبد القدوس الأنصاري ـ يرحمه الله.