الآثار الاقتصادية لعمليات غسل الأموال على القطاع الخاص

لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ظاهرة غسل الأموال, حيث اهتمت بها الدول والمنظمات والمؤسسات المالية لما تسببه من آثار اقتصادية واجتماعية وأمنية متعددة. ونتناول في هذا المقال توضيح آثارها الاقتصادية:
تشير التقديرات الواردة من الهيئات المالية إلى أن هذه الظاهرة قد تزايدت بشكل ملحوظ مما يستدعي حتمية التعامل معها وإلا تعرضت اقتصادات دول معينة للضياع بسبب ما ترتبه هذه الظاهرة من تأثيرات سلبية, إذ بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي ومنظمة (فاتف) يراوح مقدار الأموال التي يتم غسلها سنوياَ منذ بداية النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين بين تريليون وتريليونين ونصف دولار أي ما يوازي 2 ـ 5 في المائة من إجمالي الناتج العالمي. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عمليات غسل الأموال تمثل نحو 8 في المائة من إجمالي الأموال الداخلة في التجارة الدولية. ورغم أن معظم عمليات غسل الأموال تتم في دول صناعية كبرى لا سيما الولايات المتحدة، إيطاليا، ألمانيا، كندا، وفرنسا, إضافة إلى دول أخرى مثل أستراليا، اليابان، الهند، وروسيا, إلا أن الدول النامية تعتبر الأكثر عرضة لتداعياتها وتأثيراتها السلبية الخطيرة, والتي من أهمها:
أولاَ: إعاقة قدرة الحكومات الوطنية على إدارة سياساتها الاقتصادية والمالية بفاعلية, وهي الظاهرة التي تعاني منها دول الأسواق الناشئة أكثر من غيرها. وقد تكون عوائد الأعمال غير المشروعة في هذه الدول أكبر من موازناتها بما قد يؤدي إلى فقدان السيطرة على سياستها الاقتصادية والمالية, وذلك انطلاقاَ من إمكانية استخدام عوائد الأموال المغسولة في محاصرة أسواق هذه الدول أو حتى اقتصاداتها برمتها. كما أن لعمليات تبييض الأموال المغسولة تأثيراتها السلبية على أسعار العملات والفائدة, إذ يعيد مبيضو أو غاسلو الأموال استثمار أموالهم في تلك المشاريع التي تقل فيها إمكانية اكتشاف مصادرها بدلاَ من استثمارها في مشاريع تكون عائداتها الاقتصادية أجدى, وقد تؤدي عملية تبييض الأموال إلى زعزعة الاستقرار النقدي بسبب سوء توزيع الموارد وحصول تشوهات كبيرة في أسعار الموجودات والسلع.
ثانياَ: إن جانباً من أنشطة غسل الأموال يرتبط بالتهرب الضريبي بما يؤدي إلى إلحاق الضرر بدافعي الضرائب الشرفاء وأنشطتهم وكذلك حرمان ميزانيات الدول التي تشهد أنشطة غسل الأموال من الموارد اللازمة لتمويل جهود التنمية المختلفة بل والإسهام في زيادة الأعباء المالية العامة من حيث حجم الدين العام الداخلي والخارجي على حد سواء. وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة عجز الموازنات العامة لهذه الدول بل واتجاه حكوماتها إلى فرض المزيد من الضرائب لمساعدتها على دعم سياساتها العامة, الأمر الذي يسبب ضرراَ فادحا بالطبع لذوي الأنشطة المشروعة وقد يؤدي إلى توقف مشاريعهم بصورة تامة.
ثالثاَ: يترتب على عمليات غسل الأموال عرقلة القطاع الخاص عن مواصلة العمل في السوق؛ إذ يسعى غاسلو ومبيضو الأموال إلى إنشاء بعض الشركات والمؤسسات الاقتصادية ذات الأنشطة الاقتصادية الوهمية أو غير الحقيقية, وذلك بهدف إخفاء حقيقة مصادر هذه العوائد المالية؛ بل إن هذه المؤسسات قد تقوم بتوفير منتجات ذات أسعار أقل من تكلفتها الحقيقية, مما يؤثر سلباَ في قدرات شركات ومؤسسات القطاع الخاص الأخرى ذات المصادر المشروعة على المنافسة في السوق ومن ثم على قدرتها على الاستمرار في نشاطها الاقتصادية؛ فقد تضطر إلى الخروج من السوق أو تغيير نشاطها مما يكون له بالغ الأثر في الاقتصاد الكلي وقوى وآليات السوق. وقد يعقب ذلك احتكار لبعض الأنشطة التجارية والصناعية من قبل بعض الشركات والمؤسسات التي تعمل في مجال غسل الأموال لأنها تقدم المنتج أو السلعة بأسعار أقل من قيمتها أو تكلفتها الحقيقية والتي لا تقدر المؤسسات والشركات التي تعمل بأموال مشروعة على تقديمها بالمواصفات والجودة والسعر نفسها.
رابعاَ: يترتب على عمليات غسل الأموال تراجع في قدرة وأداء الاقتصاد الوطني؛ إذ تشير بعض الدراسات الاقتصادية المتخصصة إلى أن الدخول غير المشروعة التي يحصل عليها غاسلو الأموال قد أثرت تأثيراَ سلبياَ في إنتاجية العديد من الاقتصادات في عدد من الدول التي ينتشر فيها نشاط غسل الأموال لدرجة أن معدلات التراجع في بعض هذه الاقتصادات قد بلغ 27 في المائة.
خامساَ: تؤثر عمليات غسل الأموال في معدلات الادخار المحلي؛ إذ إن تلك العمليات تقترن عادة بهروب رؤوس الأموال إلى الخارج من خلال التحويلات المصرفية التي تتم آلياَ بين بنوك محلية وبنوك خارجية, بما يترتب عليه من زيادة الفجوة التمويلية بين الادخار المحلي والاستثمار, حيث تعجز المدخرات المحلية عن الوفاء بمتطلبات الاستثمار اللازمة لزيادة معدلات النمو الاقتصادي.
سادساَ: تسهم عمليات غسل الأموال في ارتفاع معدلات التضخم؛ لأنها تعد جزءا من أنشطة الاقتصاد الخفي؛ حيث تؤدي إلى زيادة الطلب الاستهلاكي غير الرشيد أو العشوائي. مما يترتب عليه زيادة الضغط على المعروض من السلع والخدمات فترتفع الأسعار طبقا لقانون العرض والطلب.
سابعاَ: يترتب على عمليات غسل الأموال إشاعة نوع من الخلل في توزيع الدخول؛ إذ تؤكد عديد من الدراسات الاقتصادية أن تلك العمليات تؤدي إلى تحويل الدخول من بعض الفئات الاجتماعية المنتجة إلى فئات أخرى غير منتجة بما ينطوي عليه ذلك من زيادة الفجوة بين الأغنياء (من ذوي الثروات الملوثة والطفيلية) والفقراء ومن ثم زيادة معدلات الفقر في المجتمع, لاسيما في ظل انخفاض قدرة الدولة على القيام بوظائفها الاجتماعية في ظل النظام الرأسمالي والمتمثلة في توفير فرص عمل للمواطنين وتوفير الخدمات الاجتماعية.
وسنواصل في مقال لاحق توضيح جوانب أخرى للآثار الاقتصادية لعمليات غسل الأموال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي