لستُ ليبرالياً غربياً

[email protected]

في حوار عام مع الأمير فيصل بن عبد الله الفيصل، مع زملاء اقتصاديين ومحامين بمختلف درجاتهم العلمية والاجتماعية حول مفهوم المجتمع المدني السعودي، وفي مقال مفصل كان نتاج حوارنا (اتفاق) أننا لسنا (ليبراليين) حسب التعريف الغربي، بل مواطنون متمدنون ومتنورون حسب الانتماء الوطني، نسعى إلى التطوير والتحديث للأطر الاجتماعية والاقتصادية في السعودية، لذلك استندنا إلى قاعدة تاريخية هي أن (المدنية) ليست محصورة على الثقافة الغربية، بل هي موجودة في جميع الحضارات والثقافات السابقة، بمختلف التسميات والدرجات التي طبقت من ثقافة إلى أخرى. وفي حوارنا أجمعنا على أن المجتمع المدني السعودي الحديث يسعى إلى (العقد الاجتماعي والمواطنة، ونبذ الانتماءات المذهبية والقبلية، وتطبيق حقوق الإنسان، والشفافية والحوكمة).
واتفقنا في بداية الطرح أن الغرب يسعى إلى توثيق (المدنية) الحديثة بالحضارة اليونانية القديمة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويقفزون تاريخياً عن دور الكنيسة في عصورهم الوسطى، التي كانت لها اليد العليا في تسيير أمور حياتهم، إلا أننا نقدر تاريخهم المعاصر لحركة التنوير السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي ظهرت في القرن السابع عشر الميلادي، والذين استطاعوا أن يثبتوا للعالم أن البشر يستطيعون أن يبلغوا قدرًا من الكمال على الأرض أخلاقيا واجتماعيا وعلمياً من خلال التنظيم الاجتماعي.
حوارنا الوطني كان علميا، وجدالنا كان مقبولا ومنطقيا حول تأثر الجيل السعودي مرحلياً بالثقافة الغربية، وأدركنا جميعاً أن استجابة المجتمع السعودي لهذا (الفكر) ليست على وتيرة واحدة، حيث الغالبية الذي يرفضها على الإطلاق من منطلق ديني، والأقلية الشبابية التي تحاول إرجاع هذه الفكر إلى مفهوم المدنية الإسلامية في عصرها الذهبي في القرن الثالث عشر الميلادي، وحوارنا كان لإسقاط هذا الفكر مع قيم المجتمع السعودي الحديث، وهي محاوله تستحق التأمل من القارئ الكريم.
لذلك فإن التعامل مع مفهوم المجتمع المدني وتسويقه في السعودية يحتاج إلى إيجاد مفردات وتصورات بديلة عن مصطلحات (الليبرالية) وفكرها المغضوب عليها دينياً، وذلك من خلال البحث في مخزون الذاكرة الإسلامية، ليسهل قبولها لدى المجتمع السعودي مثل استخدام مصطلح (المتمدن) بدلاً من الليبرالي ومصطلح (المجتمع الأهلي) بدلاً من المجتمع المدني وكلمة (الجماعة) بدلاً من الحزب السياسي، لأن مجتمعنا كما صوره المستشار عبد العزيز بن غرم الله الغامدي يرفض (كلمات) التغريب انطلاقًا من نظرية صراع الحضارات التي (أؤمن بها) شخصيا! لذلك من الممكن أن نستحدث المفهوم البديل الشامل وهو (المجتمع الأهلي) والذي يمكن أن يستوعب الجمعيات الأهلية والمؤسسات الاجتماعية بمختلف اهتماماتها، لتتفاعل داخل منظومة الأمة الوطنية بحراكها العامة، لتكون الحلقة (الرابطة) بين السلطة التشريعية والتنفيذية وبين عموم الأمة لاستكمال أهداف النسيج الوطني، وتحقيق هدف الحاكم والمحكوم، عبر مفاهيم متصلة بتاريخنا الإسلامي.
المواطن السعودي (المتمدن) ليس مسؤولا عن مفهوم (طاش ما طاش) لليبرالية السعودية أو المطالبين بنظام المجتمع الغربي الذي أصابته سهام الاختلاط، ولسنا مسؤولين عمن يريد ربط حركة الإصلاح بمفاهيم فضفاضة نتيجة للتشويش الديني لوضع عقبات حساسة أمام (التسامح) الديني والاجتماعي الداخلي، ومن محاولة المتعصبين (توريط) المثقفين الصادقين بحقوق المرأة، ومن محاولة بعض المشايخ اتهام (النخبة) الوطنية بالعمالة للغرب.
كذلك لن أحاول التقليل من وطنية أبنائنا المخلصين المطالبين بتصورات أخرى مفارقة للواقع، إلا أننا نراها مطالب تُطرح علينا من أبراج عاجية، وتصب في ثقافة الوجبات السريعة جاهزة التحضير. فمصائر الأمة الخليجية ومصالحها لا تُأتي هكذا بنقل أنظمة طبقت في دول أخرى بدعوة نجاحها لديهم دون النظر إلى نتائجها داخلياً، حيث ثبت فشل كل من يحاول أن يعمم نظامه على العالم، مثل النازية والشيوعية والرأسمالية التي بدأ يأفل نجمها مع مطلع القرن الواحد والعشرين، في مقابل نجاح تجارب الخصوصية النظامية للمجتمعات مثل سنغافورة والصين والهند وماليزيا، والتي طورت نظامها بما يتناسب مع نسيجها الوطني، والتي استمتعتُ بقراءة أغلب معالمها في مقال الأستاذ الكاتب علي سعد الموسى في جريدة "الوطن" الأحد الماضي بعنوان (لو كنتُ سعودياً).
التطور سمة الأمم والشعوب، وعلينا تقبل ما هو صالح ومقبول بسبب ما طرأ على مجتمعنا السعودي بأكمله من تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية تجعلنا في حاجة إلى إعادة النظر على الدوام في ممارستنا الراهنة، بل واستباق الأحداث من خلال التطوير المخطط، بدلاً من أن نكون رهينة للمتغيرات والتطورات المستجدة التي قد تقودنا إلى هنا أو هناك، نحو أهداف غير مرغوبة ولا نتمنى وجودها، لذلك نحنُ نطالب بمجتمع (متمدن) إسلامي، ليس مشروطا بديمقراطية غربية أو اتباع منهج العلمانية، نحنُ نطالب (النخبة) المثقفة بتطبيقات مقبولة لمفهوم المجتمع المدني السعودي، فكرياً وعملياً وبمشاركة من أفراد المجتمع في السياسة العامة، من خلال الأطر التي وضعتها الدولة، مثل مجلس الشورى، ومجلس المنطقة، ومجلس الأحياء، وشرطة المجتمع، ومؤسسات المجتمع، مثل المسؤولية الاجتماعية واتحادات الطلبة في الجامعات وغيرها مما يستجد، مع التأكيد والالتزام بالنظام الأساسي للحكم.
ختاماً إننا كمجتمع سعودي مثلنا مثل غيرنا، نؤثر ونتأثر بثقافات وسياسات الأمم الأخرى، وعلينا بالمرونة في التعامل مع الأفكار والمفاهيم الجديدة طبقاً لهويتنا الإسلامية العربية السعودية التي تواكب المتغيرات، بغض النظر عما يثار حولنا من جدل إيجابي أو سلبي للثقافة الحالية، وأن نعمل جاهدين على المحافظة على القيم الإسلامية الحقيقية، وعلينا استيعاب الأصوات الوطنية الصادقة في السعودية، وهي أصوات شبابية في مجملها، ويجب ألا نتجاهلها لأنها مؤشرات حقيقية، وإن كانت قاسية ومزعجة، ولكن علينا قبولها بنظرة إيجابية، وأن نستفيد مما يُطرح لتصحيح مفهومنا وتقوية مجتمعنا بدلاً من إنكارها وهو أمر لا يضيف لنا شيئًا إذا ما أردنا التطوير والتحديث في جيل اليوم والمستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي