النموذج الغربي لحقوق الإنسان (1 من 2)

المتأمل في المشهد السياسي والثقافي على المستوى العالمي يلاحظ حضوراً قوياً (للدندنة) على حقوق الإنسان، وإبراز الوجه القانوني لهذه الحقوق، وهذا بطبيعة الحال ألقى بظلاله على الحراك الثقافي في مجتمعنا، وأصبح الحديث عن حقوق الإنسان يصدر من المختص وغير المختص! بل صار (تقليعةً) عند بعض الكُتّاب، ونحشى أن تصبح حقوق الإنسان حديث من لا حديث له! ولا شك أن تناول حقوق الإنسان من حقوق الإنسان! لكن الاعتراض أن يتحدث فيها كل أحد دون علمٍ ولا روية!
حتى بتنا نسمع أصواتاً تطالب بلسان الحال أو المقال بتعميم النموذج الغربي وإقصاء كل ما يعارضه أو يصادمه، دون أدنى معرفة للأسس الفلسفية والجذور التاريخية لهذه الحقوق في نسختها الغربية!
كثير منا يعتقد أن الغرب توصل إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 دون مقدمات ودون صراعات ومرارات، لذا فحري بنا سبر أغوار النموذج الغربي لحقوق الإنسان ومعرفة جذوره التاريخية والفلسفية حتى يتسنى لنا فهم أبعاده وتطبيقاته المختلفة.
تمثل الحضارة اليونانية العمق التاريخي والفلسفي لكثير من الرؤى والتصورات الغربية والأوروبية ولا سيما في مجال العلوم الإنسانية بما في ذلك حقوق الإنسان، وبالرغم من تشبع اليونان ومن بعدهم الرومان بالوثنية إلا أن هذا لم يمنع الغرب من التجذر العميق لهاتين الحضارتين ولا سيما الأولى منهما.
أقدم التصورات الذهنية والمفاهيم المجردة لأسس حقوق الإنسان الغربية هي فكرة القانون الطبيعي التي ظهرت في الفلسفة اليونانية، وانتقلت إلى القانون الروماني، وهي فكرة مفادها: وجود قانون ثابت لا يتغير، يعد المثل الأعلى الذي يجب أن تنسج على منواله قوانين المجتمع، لأنه قائم على مبادئ لم تؤخذ من تقاليد متواضع عليها ولا من قواعد محدودة في كتاب، بل مصدره الطبيعة ويكشفه العقل، ويكاد القانون الطبيعي الذي يحكم البشر أن يكون في نظر اليونان هو إرادة الآلهة، أو القانون الأخلاقي، الصادر عن إرادة الآلهة، ثم انتقلت فكرة القانون الطبيعي إلى الرومان، وقد صاغ شيشرون خطيب الرومان الشهير فكرة القانون الطبيعي فقرر أنه أساس المبادئ الخلقية والقانونية وأن الناس أمة واحدة يستوي أفرادها في نظر الطبيعة.
وانتقل القانون في العهد الروماني من الاتجاه الفلسفي إلى الاتجاه العملي التطبيقي، وانتقلت فكرة القانون الطبيعي إلى المسيحية وأشهر من تبنى هذا القانون توماس الأكويني (1225 – 1274) الذي كان يرى أن العقل البشري يكتشف أحكام القانون الطبيعي من خلال ميول الطبيعة الإنسانية لا من طريق المعرفة العقلية، ولقد اعتمد القانون الكنسي في أحكامه على القانون الطبيعي، والقانون الروماني والعرف ولم يكن للدين فيه إلا مبادئ توجيهية عامة ومحدودة.
وفي القرن السابع عشر ظهر كتاب الفقيه الهولندي جروسيوس 1625م "قانون الحرب والسلام" وقد ذكر فيه تعريف القانون الطبيعي بأنه "قاعدة كشف لنا عنها العقل السليم ويتحتم بمقتضاها أن نحكم على عمل بأنه ظالم أو عادل قدر اتفاقه مع المعقول، ولقد أثرت عن جروسيوس هذا عبارته "لو كان الإله غير موجود لظل القانون الطبيعي في الوجود" ويظهر في هذا نفي الصبغة الإلهية وصبغ القانون بالإنسانية، أو نفي اللاهوت وإبقاء الناسوت، وهذا ظهر في سياق العلمانية والإلحاد الذي تشبعت به أوروبا الحديثة.
وفي العصر الأوروبي الحديث شوهت فكرة القانون الطبيعي من خلال اجتهادات واضطراب المفكرين الأوروبيين، ولعل أبرز مظاهر التشويه هو تقُليص القانون الطبيعي إلى مؤشرات أو مثل عليا يهتدى بها عند عمل القوانين المختلفة، وأخطر من ذلك إدخال عناصر متغيرة في القانون الطبيعي, وفي هذا قتل ووأد لفكرة القانون الثابت (مذهب القانون الطبيعي ذي المضمون المتغير)، وأصبح دوره فقط أنه مرجع يمكن أن يلجأ إليه القاضي إذا لم يجد في القانون الوضعي شيئاً. مع هذا أثمرت فكرة القانون الطبيعي أصولاً فلسفية أخرى مثل "نظرية العقد الاجتماعي".
وأبرز أوجه النقد لفكرة القانون الطبيعي القائل بوجود قانون طبيعي يحكم العالم بانتظام وانسجام يستنتجه الإنسان من خلال ملاحظته وتأمله هو قريب في أساسه النظري من مبدأ الفطرة عند المسلمين، والذي يظهر أن هذا من بقايا الفطرة لدى هؤلاء افتقر إلى قبس الوحي ونور النبوة فولد خداجاً فحاول من حوله إبقاءه حياً بجهود أدت إلى موته.
يشير العمير (1406) " إن القول بالقانون الطبيعي ناتجٍ عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها من الإقرار بوجود الخالق، لكن لم يحصل ما يقوم هذا النور الفطري فأطلق عليه اسم الطبيعة " (ص81).
والمتأمل يجد أن عناصر قوة هذا القانون ووهجه في أوج الفلسفة اليونانية ولا سيما عند سقراط وأفلاطون، ولهذا يظهر للباحث أن ثمة أمر آخر إضافة إلى الفطرة أسهم في القول بهذا القانون وهو أن هذا الأمر من بقايا النبوة التي اندرست، ومن ذلك ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أساطير الفلاسفة اليونان الأوائل مثل فيثاغورس وسقراط وأفلاطون كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشام ويتلقون عن لقمان الحكيم ومن بيده من أصحاب داود وسليمان عليهما السلام، وقد خالف سقراط قومه اليونان في عبادتهم ووثنيتهم ولذلك أعدموه بشرب السم (ابن القيم، 1417هـ، 622).
أما النقد الموجه لهذا القانون فأولها غموض هذا القانون وعدم تحديده، أدى إلى الاختلاف فيه، وقانون مختلفٌ فيه، كيف يصمد أن يكون أساساً وأصلاً لغيره ؟! ثم إن هذا الغموض والاختلاف فيه يفضي إلى ضعفه وعدم سيادته وبالتالي هضم حقوق الإنسان المبنية على أساس منه، كما يفتقر القانون الطبيعي إلى عنصر الالتزام وعنصر القوة، وما هو إلا مجرد قيد أدبي قد يلتزم واضعو ومشرعو الحقوق وقد لا يلتزمون به.
ولعلنا في المقال القادم نواصل الحديث عن أصول حقوق الإنسان في نسختها الغربية.

خاطرة:
والليالي من الزمان حبالى
صامتات يلدن كل عجيب

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي