جائزة الملك عبد العزيز للجودة والاستثمار الأمثل

إن من علامات نضوج الحضارات الإنسانية إبداعها للمعايير والنظم. ومن تلك المعايير ما له علاقة مباشرة بالمنظمات والعمل المؤسسي، بحيث إنها تضبط إيقاع تلك المنظمات وسلامة تخطيطها ووضوح أهدافها التي ترنو الحصول عليها مع إرضاء كل الأطراف ذات المصلحة منها.
واليوم ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين قرن التنافس والأزمات الاقتصادية المتتابعة، تظهر الحاجة إلى المنظمات للسعي نحو التميُّز والجودة، التي بدورها تقوم بضخ روح التميُّز في شرايينها بكل صوره ومعانيه، وبالتالي البقاء والاستمرار،
وهذا ما يتحقق فعلياً فيما يسمى بنماذج جوائز الجودة العالمية القائمة على نماذج ناضجة ذات شمولية وتكامل تأخذ بيد المنظمات نحو أفق الجودة التميُّز، وهذا هو ما أدركته بلادنا الحبيبة ممثلة في قيادتها الحكيمة ورجالها المخلصين بشأن إطلاق أكبر وأهم جائزة في هذا المجال جائزة المؤسس، طيب الله ثراه، جائزة الملك عبد العزيز للجودة بمرسوم كريم من مجلس الوزراء الموقر.
وها نحن اليوم نحتفل بتسليم جوائز دورتها الأولى للفرسان الأوائل الذين توجوا بهذا الشرف الكبير.
إن جائزة الملك عبد العزيز للجودة ليست مجرد جائزة وطنية لتكريم المتميزين فحسب، بل إنها إطار عملي ناضج وشامل ومتكامل من خلاله يمكن للمنظمات تحقيق التميُّز المطلوب، وهذه فرصة عظيمة قد سبقتنا لها كثير من الدول العالمية التي قامت بتأسيس جوائزها الوطنية للجودة، فكان لها الدور الكبير في تميز خدماتها واقتصاداتها كاليابان مثلاً، التي أسست جائزتها جائزة ديمنغ للجودة عام 1951، ثم قامت الولايات المتحدة بإنشاء جائزتها للجودة، التي يطلق عليها جائزة مالكولم بولدريج الوطنية للجودة MBNQA عام 1987، وأخيراً تم إطلاق الجائزة العالمية الأكثر تأثيراً في نطاقها جائزة الجودة الأوروبية EFQM عام 1991. ثم توالت الجوائز الوطنية للجودة في مختلف بلدان العالم، التي تجاوز أكثر من 70 جائزة على حسب تقديرات أحد الأبحاث، وجميعها قد اعتمدت واستفادت من جائزتي أمريكا وأوروبا.
ونظراً لأهمية جوائز الجودة عموماً، وجائزة الملك عبد العزيز للجودة خصوصاً ومدى تأثيرها في القطاعين الخاص والعام في المملكة، فإنه لا بد من استثمارها الاستثمار الأمثل، وذلك من خلال ما يلي:

أولا: التعرف على نموذج التميُّز وتبنيه في المنظمة من خلال:
* الاقتناع بأهمية النموذج وفوائده للمنظمات
حيث إن جميع المنظمات تسعى إلى تحقيق الريادة في السوق، والنجاح في جميع جوانب بيئة الأعمال التجارية، وكذلك تلبية احتياجات وتوقعات جميع أصحاب المصلحة الرئيسيين من الموظفين، العملاء، المستثمرين، المجتمع، والشركاء.
لذا فإن نموذج التميُّز هو الطريق الأمثل لتحقيق ذلك، فكثير من الدراسات البحثية الموثقة تشير نتائجها إلى أن التنفيذ الفاعل لمبادئ نموذج التميُّز يعود على المنظمات بمردود اقتصادي كبير وزيادة في النمو وتحسين الكفاءة. كما أن تطبيق نموذج التميُّز يساعد المنظمات على إنشاء نظام إداري شامل، ويساعد على نشر ثقافة المعرفة والإبداع والتميُّز في المنظمة وموظفيها أثناء رحلتها نحو بلوغ التميُّز، وتسريع جهود التحسين المستمر، واكتساب منظور واحترام خارجي، وبالتالي بلوغ الريادة في السوق.
* التعرف على معايير نموذج التميُّز
يتألف نموذج التميُّز من تسعة معايير من ألف نقطة، تمثل الخمسة الأولى منها الوسائل والممكنات؛ وهي التي تغطي جميع أنشطة المنظمة وجهودها، بينما تمثل المعايير الأربعة الأخرى النتائج والإنجازات.
ويقوم النموذج على الفرضية القائلة إن النتائج المتميزة فيما يتعلق بالأفراد، مؤشرات الأداء الرئيسية، العملاء، والمجتمع، يمكن تحقيقها من خلال القيادة التي تضع السياسة والاستراتيجية للمنظمة التي يتم تنفيذها من خلال العاملين، الشراكات، والموارد، والعمليات، مع غرس عناصر الإبداع والتعلم التي تعزز طابعه الديناميكي، وتدل كذلك على أن تحسين الوسائل سيؤدي إلى تحسين النتائج.
وتشمل دورة التعلم بالنموذج ضمناً عملية القياس المقارن بأفضل الممارسات العالمية.
* التعرف على مبادئ التميُّز الثمانية
يقوم النموذج على ثمانية مفاهيم أساسية تمثل مجموعة من المعتقدات بتكاملها معاً تحدد حقيقة وماهية التميُّز.
1. التوجه نحو تحقيق النتائج
التميُّز هو تحقيق النتائج التي تسعد جميع المستفيدين من المنظمة وتحقيق التوازن بينها، وتلبية احتياجاتهم.

2. التركيز على العميل
التميُّز هو إيجاد قيمة مستدامة للعملاء، بحيث يمثل العميل الحكم الأخير على جودة المنتجات أو الخدمات.

3. القيادة وثبات التوجه
سلوك القادة يخلق وحدة التوجه ووضوحه في المنظمة، ويهيئ بيئة تشجع على التميُّز، فالتميُّز هو رؤية وقيادة ملهمة، إلى جانب ثبات التوجه (مبادئ د.ديمنغ).

4. الإدارة بالعمليات والحقائق
يصبح أداء المنظمات أكثر فاعلية عندما يتم استيعاب جميع الأنشطة الداخلية المترابطة وإدارتها بطريقة منتظمة، إضافة إلى اتخاذ القرارات المتعلقة بالعمليات، وخطط التحسين المبنية على معلومات موثقة تشمل تصورات أصحاب المصلحة.

5. تطوير العاملين ومشاركتهم
أفضل طريقة لاستغلال الإمكانات الكاملة للعاملين في المنظمة، هي نشر القيم المشتركة، وثقافة الثقة والتمكين، التي بدورها تشجع مشاركة الجميع، فالتميُّز هو مضاعفة مساهمة العاملين من خلال تطويرهم ومشاركتهم.

6. استمرارية التعلم والابتكار والتحسين
يعظم أداء المنظمة عندما تقوم على إدارة وتبادل المعرفة تحت مظلة ثقافة استمرارية التعلم، الابتكار، والتحسين، فالتميُّز هو تحد للوضع الراهن، وإحداث للتغيير باستخدام عملية التعلم لخلق فرص الابتكار والتحسين.

7. تطوير الشراكات
تعمل المنظمة بصورة أكثر فاعلية، عندما تكون علاقات المنفعة المتبادلة مع شركائها مبنية على الثقة، وتبادل المعرفة والتكامل، فالتميُّز هو تطوير شراكات ذات قيمة مضافة للمنظمة والمحافظة عليها.

8. المسؤولية العامة
إن أفضل وجه لتحقيق المصلحة طويلة الأجل للمنظمة ولموظفيها هو تبني النهج الأخلاقي وتجاوز توقعات المجتمع ككل نحو المنظمة.

ثانياً: أهمية دور القيادات في تبني نموذج التميُّز
إن رحلة المنظمات نحو التميُّز تستغرق وقتا كبيراً، فهي قد تأخذ ما بين الخمس إلى السبع سنوات وتتطلب التزاماً قويا من القيادة. ولا بد من اقتناع القيادات التام في المنظمات بتبني نموذج التميُّز المؤسسي في جوهره، الذي يتطلب "ثبات الهدف" مع مزيد من الصبر والمثابرة، والذي يبدو أنه أمرٌ غير مألوف تماماً. ولذا فإن العديد من المنظمات تبدأ رحلتها نحو التميُّز بحماس وبابتهاج كبيرين مع توقعات بنتائج سريعة، فإذا لم تتحقق التوقعات في وقت سريع فستفقد كثيرٌ من القيادات صبرها، وبالتالي تشعر بالإحباط، ومن ثم ينتهي بها الأمر إلى تشكيل تصور بأن "الاستثمار في نموذج التميُّز وإدارة الجودة الشاملة ليس له سوى القليل من التأثير أو أنه قد لا يؤثر مطلقا في الأعمال والأداء المالي"، وينتهي ذلك بإلقاء اللوم على مبادئ التميُّز وأدواته المستخدمة في تحقيقه.

ثالثاً: استراتيجيات الفوز بجوائز الجودة والتميُّز
إن الفوز بجائزة الجودة والتميُّز هو انعكاس حقيقي لمستويات عالية من تطبيق واستيعاب وتفعيل مبادئ ومفاهيم إدارة الجودة والتميُّز، التي تبنتها المنظمات.
وحيث إنه لا توجد وصفة سحرية سريعة لنجاح طويل المدى، فعلى المنظمات التي قررت الدخول في عملية الانضمام للحصول على الجائزة، اتباع استراتيجيات عملية تصل بها في النهاية إلى المنافسة الجادة للحصول على تلك الجائزة أجملها فيما يلي:
* إطلاق القيادة بنفسها مشروع المنافسة للحصول على جائزة من خلال خطة طويلة الأمد مع تحفيز الموظفين بذلك.
* وضع أهداف واضحة للمشاركة في عملية الحصول على الجائزة؛ وإيصال الرسالة للموظفين بوضوح أن الهدف من ذلك ليس الجائزة فحسب، بل تميز المنظمة والتحسين المستمر.
* وضع خطة محكمة ذات أطر زمنية محددة لتنظيم المشروع وإعداد وثيقة التقديم للجائزة (السيرة الذاتية) مع تحديد واضح لعملية جمع المعلومات، ولجميع الأدوار المشاركة فيها، وتوفير الموارد اللازمة لذلك.
* التدريب والتأهيل لجميع أفراد المنظمة كل على حسب دوره وتأثيره.
* تطبيق عملية التقييم الذاتي على المنظمة عدة مرات قبل دخولها في الجائزة اعتمادا على نموذج التميُّز، منها مرة واحدة على الأقل من قبل مقيمين مستقلين وذلك لتقييم مدى مطابقة المنظمة للإطار العام في مختلف مستويات التميُّز، وكيف يتوافق ذلك مع الأهداف الخاصة بها.
* التحضير والإعداد الجيد للزيارة الميدانية للتقييم، وذلك من خلال تنظيم زيارة تقييم ميدانية وهمية (تجريبية) قبل زيارة المقيمين، وتجهيز السجلات اللازمة بالمعلومات والأدلة، والاستجابة بفاعلية للمقيمين أثناء الزيارة الميدانية.
* بمجرد مغادرة المقيِّمين بعد الزيارة الميدانية يمكن للمنظمة استعراض عملية التقييم، كذلك يمكن لمدير المشروع نيابة عن المنظمة أن يوجه مذكرة شكر لمكتب الجائزة وللمقيمين لمساهمتهم في رحلة المنظمة نحو التميُّز.
* الاستفادة من تقرير التقييم النهائي للمقيمين، الذي يعد القيمة الحقيقية للمشاركة في عملية الحصول على الجائزة، لأنها تقدم مراجعة مستقلة، وشاملة بطريقة احترافية، فهو يحتوي على نقاط القوة ومجالات التحسين التي ينبغي على القيادة أن تقوم بتشكيل لجنة تنسيق لمراجعة التقرير، والشروع في اتخاذ الإجراءات اللازمة للتحسين في الدورة التالية، ومن ثم التحسين المستمر للمنظمة.
* عند الفوز بالجائزة يستحسن الاحتفال بهذه المناسبة وإعلام الموظفين والمساهمين الرئيسيين، وكذلك يمكن إبلاغ الشركاء والمستثمرين.. إلخ، وإشراكهم في الاحتفالات.

على الرغم من أن معايير الجائزة بسيطة، إلا أنها في الوقت نفسه أدوات تشخيص فاعلة، فهي مثل الأشعة السينية، تقوم بتوفير طريقة جديدة للنظر في المنظمة وفهم ما يحدث فيها بالفعل.
إن الأدلة الموضوعية والمستقلة تشير إلى أن الاستثمار طويل الأجل لمبادئ ومفاهيم إدارة الجودة الشاملة، ونموذج التميُّز، وتنفيذها بصورة فاعلة، سينعكس إيجابياً على أداء المنشأة.
لذا فقد حان الأوان لقيادات المنظمات أن تتخذ قرارها وبجدية كبيرة، لتبني نموذج التميُّز نصَّاً وروحاً.. وما جائزة الملك عبد العزيز للجودة إلا خريطة طريق لذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي