القبول بالحلول الخاطئة

المشكلات جزء من الواقع, ووجودها في حد ذاته دليل عافية بشرط أن تكون هناك استجابة تدفع بالمجتمع إلى إيجاد حلول تتناسب وطبيعة هذه المشكلات. والعلم يهتم كثيرا بالمشكلة كموضوع لأنها هي التي تكشف حقيقة المجتمع ودرجة رقيه من خلال رده عليها, والعلم يؤكد أيضا أن معرفة المشكلة وتحديد حجمها والوصول إلى أسبابها والإحاطة بتفصيلاتها خطوات أولية وضرورية لإيجاد الحل المناسب لها. وفي مقابل المشكلة الواحدة هناك كم من الحلول المناسبة لها, لكن الشطارة في إيجاد الحل الأفضل لها الذي ينسجم وظروفها ويستجيب لشروطها. وأسوأ من المشكلة الهروب منها أو عدم الاعتراف بها, وأسوأ الحلول هي الحلول لمشكلات غير موجودة أو لمشكلات موجودة في الأذهان وغير موجودة في الواقع.
فللمشكلات اليوم علم خاص بها, ومن لا يعرف فنون هذا العلم لا خلاص له من المشكلات والأزمات, ومن متطلبات هذا العلم أولا الشجاعة بالاعتراف بالمشكلة, نعم الاعتراف بالمشكلة يتطلب شجاعة لأن فيها إقرارا بالنقص والخطأ وتحمل المسؤولية, وثانيا يتطلب هذا العلم الصبر لأن المشكلة لا تعطي من نفسها ولا تسمح بالتعرف عليها إلا لمن يجتهد في تجميع المعلومات والحقائق عنها. أما ثالث المتطلبات فهو الإيمان بروح الجماعة والفريق, لأن العقول عندما تجتمع تشتد قوتها وتزداد جرأتها ويصبح من السهل الإحاطة بالمشكلة مهما كبر حجمها. أما آخر المتطلبات في علم المشكلات فهو الاعتقاد بأن العمل والاجتهاد في حل المشكلة يفتح باب التوفيق من عند الله للإنسان المجتهد, فهناك من يهرب من المشكلة ويقعد عن حلها بحجة عدم الاستطاعة أو أن المشكلة في نظره كبيرة جدا, وأنه لا حل لها إلا بالخنوع والاستسلام لها والصبر على تحملها, فهذا إنسان يراهن فقط على قدراته وفهمه المشكلة وإحاطته بها, وبذلك يحرم نفسه من التوفيق الإلهي الذي هو في خط المجتهدين لا القاعدين. هذا المطلب في علم المشكلات يدفع بالإنسان إلى المواجهة مع مشكلاته وتلبية نداء الله "قل اعملوا", ولو قرأنا حياة الناجحين أفرادا وجماعات وأمما وشعوبا لوجدنا أن سر نجاحهم وعلة تفوقهم على غيرهم هو إصرارهم على العمل والاجتهاد والاشتباك مع مشكلاتهم والالتحام بأزماتهم وعدم الهروب منها, وهذا بدوره أهلهم لاستقبال التوفيقات الإلهية والوصول إلى أهدافهم وأهداف أبعد من أهدافهم, فكان العمل هو الطريق لتوفيق الله وكان النجاح هو ثمرة هذا التوفيق. فلا توفيق بلا عمل واجتهاد ولا نجاح بلا توفيق من الله سبحانه وتعالى.
التفكير العلمي وممارسة العلم عند الفرد والمجتمع يستقوي حضوره عندما يتحول إلى ثقافة, فالثقافة العلمية في مواجهة المشكلات دليل على قدرة ذلك المجتمع على تطوير نفسه والارتقاء بواقعه. لجوء المجتمع إلى القبول بالحلول الخاطئة للمشكلات يعني أنه لم تكن هناك مواجهة حقيقية مع المشكلة نفسها, وبالتالي تأتي الحلول غير واقعية وغير عملية, بل إنها تضيف للمشكلة أوزانا لأوزانها وتجعلها بذلك أصعب على الحل في المستقبل.
في الواقع هناك مشكلات لم نحسن التعامل معها وجاءت حلولنا لها بشكل خاطئ, والنتيجة كانت بدل المعاناة من مشكلة واحدة أصبحت المعاناة من عدة مشكلات. المعالجة الخاطئة تضيف مشكلة إلى أصل المشكلة, وفي هذا تعقيد للواقع وتأزيم للمشكلة. وقبل أن نذكر بعض المشكلات التي ربما عولجت بشكل خاطئ والنتيجة كانت أننا أضفنا إلى واقعنا مشكلات جديدة, هناك مشكلات أحسنا التعامل معها ولو بعد حين وهي اليوم مشكلات تحت السيطرة. فزيادة أعداد الطلاب الذين يتخرجون في مرحلة الثانوية مع قلة الأماكن المتاحة لهم في الجامعات كانت فعلا مشكلة وظللنا لفترة زمنية طويلة نريد حلها بزيادة عدد المقبولين في الجامعات الموجودة, التي هي أصلا تعاني الضيق بمنتسبيها, وهذا الحل مع أنه أربك الجامعات إلا أنه حل لم يستوعب إلا جزءا من المشكلة وبقيت هناك أعداد كبيرة من الطلاب خارج أسوار الجامعة, فجاءت مبادرة خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي مع التوجه لفتح ما يقارب من ثماني جامعات جديدة في مختلف مناطق المملكة لترسم لهذه المشكلة حلا شاملا لها. واليوم وبتطوير الجامعات القديمة واستمرار توسيع الجامعات الحديثة صارت هناك نقلة في التعليم العالي سيكون بإمكانها استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب في الحاضر والمستقبل. وهناك أمثلة أخرى من هذا النوع.
في المقابل هناك مشكلات تنتظر منا أن نعالجها بشكل صحيح, ارتفاع نسبة الحوادث في المملكة وكذلك ارتفاع نسبة الإصابات الناتجة عن هذه الحوادث, ونحن نعرف أن السبب وراء هذه النسب المرتفعة من الحوادث هو السرعة. حاولنا بالتوعية المرورية وبزيادة الغرامات للحد من هذه الظاهرة إلا أننا فشلنا في كل ذلك لأنه لم تكن هناك جدية في ضبط السرعة في شوارعنا. السرعة هي المشكلة ولا بد من طريقة للحد منها, وعندما نسمع عن مشروع متكامل للمراقبة الإلكترونية لشوارع المملكة نستطيع القول إن هذا هو بداية الحل الصحيح للمشكلة.
نريد أن نقلل من عدد الأجانب عندنا لأن وجودهم بهذه الأعداد الكبيرة خنق لفرص العمل المتاحة للمواطن, مضافا إلى ذلك ما ينتج عنهم من مشكلات اجتماعية وأمنية, ولكننا في الوقت نفسه نسمح لأعداد كبيرة من المحال والمؤسسات التي تتنافس في مهنة واحدة وفي مجال واحد. لننظر إلى عدد المطاعم والحلاقين والبقالات والمخابز في المدينة الواحدة والشارع الواحد .. هل نحن فعلا في حاجة إلى عشرة آلاف مطعم و100بقالة و20 ألف محل حلاقة والمئات من المراكز التجارية الكبرى, التي كلها يشغلها عمال أجانب؟ يضاف إلى ذلك أننا تصعب علينا مراقبتها صحيا, وغير ذلك من الأمور الأخرى. ونرى أنه امتد الأمر إلى المراكز التجارية الكبيرة حتى صار البعض يتكلم عن مركز تجاري لكل كم ألف من المواطنين. لسنا في حاجة إلى كل هذا العدد من محطات البنزين والمغاسل والبقالات والمراكز التجارية والمخابز, وبالحد منها سيكون بالإمكان الحد من العمالة الأجنبية وتعزيز فرص المواطن للعمل فيها.
لعل كثيرا منا ربما مقتنع بأن المرأة من حقها أن تفتح محلا خاصا بها لممارسة العمل بنفسها وفي إطار الضوابط الشرعية والأخلاقية التي يسمح بها مجتمعنا, خصوصا في بعض المجالات ذات العلاقة بالمرأة نفسها, ولكننا في الواقع لا نسمح لها, وفي الوقت نفسه نسمح للنساء أن يفترشن الأرض في أوضاع لا تحفظ لهن كرامتهن وأن يجلسن في مقابل محال يملكها بالاسم سعودي وفي الباطن هي لمقيم يجني منها أموالا طائلة. هذه المرأة هي أحق بأن يكون لها محل خاص بها ترتزق منه بشكل محترم.
نحمد الله أننا نعيش اليوم تطورا في طريقة معالجتنا لكثير من مشكلاتنا, وهذا بفضل التوجهات الإصلاحية التي يرعاها خادم الحرمين الشريفين, فالمناقشة الواعية والمعلنة للواقع هي فعلا البداية الصحيحة لمعالجة المشكلات, فالمشكلة التي لا نعترف بها ولا نجتهد في فهمها لا نمتلك القدرة ولا الجرأة على حلها. وجود المشكلات والأزمات هو فعلا تحريك لنا للارتقاء بواقعنا بشرط أن نحسن التعامل مع هذه المشكلات, وأن تأتي حلولنا مستوعبة لها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي