رواد دراسات المعرفة في وزارة التربية والتعليم .. بين التحدي والآمال
رؤية الملك عبد الله ـ حفظه الله ـ لمستقبل المملكة رؤية وضعت من سنوات عديدة, تتضح ملامحها أكثر وأكثر في كل عام, ليس بالإعلان والتصريح بل بالتنفيذ والتطبيق لهذه الرؤية, فهي واقع ملموس, محسوس, ومعلوم, وليست مجرد حلم ولا وهم ولا تخيل بل حقيقةً لها وجودها. وفي كل عام, كان الإنسان السعودي ولا يزال في قلب هذه الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى. فعليه صرفت الثروات وأنفقت الأموال وبذلت الجهود لبناء فكره ومعرفته ومهارته لكي يسهم في تمكين المملكة من اتخاذ مكانتها ضمن الدول والمجتمعات المعرفية المتقدمة, المعتمدة على اقتصاد معرفي قادر على الإنتاج والتنافس ليس إقليمياً فحسب بل عالمياً.
مشروع خادم الحرمين الشريفين لإنشاء مجتمع سعودي معرفي مشروع يهدف إلى رفع مستوى الإبداع, الابتكار, الإثراء, الإنتاج والقدرة على التنافس للإنسان السعودي مع أفراد مجتمعات الدول المتقدمة. في بدايته, كان هذا المشروع يهدف إلى إحداث تطوير في مفاهيم ثقافة الفرد السعودي, وتهيئته للتغيير, وتوجيهه لاكتساب معرفة ومهارات يحتاج إليها المجتمع والاقتصاد السعودي. فالثقافة والمعارف يشكلان أهم المحاور في خلق التنمية الإنسانية في أي مجتمع. في ذلك الوقت لم يكن للآخر أهمية في ثقافتنا ولم نكن نحسن التحاور والتعامل معه بشكل يؤثر في تقدم مجتمعنا وتطوره بغض النظر عن ماهية الآخر.
كان لمشروع الحوار الوطني دور أساسي في إحداث هذا التغيير المهم وتأسيس ثقافة تبادل للخبرات والمعارف والآراء المحلية والعالمية بما يفيد المملكة. تلا هذا بفترة قصيرة الاستثمار الهائل في التعليم, فتمت مضاعفة عدد الجامعات ثلاثة أضعاف ما كانت عليه, بعث الآلاف, دُرب الكثير, أُسِسَت "موهبة" لرعاية الموهوبين, ونظمت المؤتمرات بشتى أنواعها واهتماماتها. إنها استراتيجية عمل أقل ما توصف بثورة تغيير ثقافية ومعرفية نحو مملكة قادرة على المنافسة والنجاح بفضل مقدرتها على إيصال الإنسان السعودي إلى مرحلة العطاء والإنتاج المعرفي وتوظيفها بكفاءة في جميع الأنشطة. السؤال المهم: أين نحن, في هذا الوقت, من الهدف الأكبر ألا وهو بناء مجتمع سعودي معرفي؟
المتتبع للخطوات السابقة في هذا النهج المعرفي يجد أن كثيرا من الجهود ركزت في معظمها على الجوانب الثقافية والاجتماعية وعلى التعليم العالي وتطوير البحث العلمي وأسسه وعلى إنشاء حكومة إلكترونية. إلا أن التعليم والتربية للأجيال الناشئة في المراحل ما قبل الابتدائية, الابتدائية, المتوسطة والثانوية لم يكن للخطط السابقة تأثير ملموس أو واضح وهذا أمر خطير جداً. أي أن مشروع إنشاء وتطوير المجتمع المعرفي السعودي لن يتم له النجاح ما لم ننجح في تربية وتعليم هذه الأجيال على الانضباط, التهذيب, الاحترام, وتحمل المسؤولية, وننجح في تعليمها قيمنا السعودية السامية, وحب العمل والعطاء والإنجاز وضبط السلوك. أصبح لدينا أجيال تكاد تكون فارغة من محتويات الإنتاج والعطاء, وأشبه بالخاوية من المعرفة, مقارنة بدول ليس مواردها المادية بأكثر منا. أجيالاً لا تعرف تحديات بلادها, ومشغولة بالتسلية والبحث عن الرفاهية, أسهم تدني تعليمها وتأهيلها معرفياً ومنهجياً في دخول ملايين من الأجانب للإقامة بين ظهرانينا لسد الفراغ الذي أوجده ضعف كفاءات هذه الأجيال. فحينما تكون مخرجات التربية والتعليم متواضعة عبر عقود من الزمن فإن المحصلة النهائية تؤثر في شتى شؤون حياة البلاد بدءا بالبطالة ومرورا بالمخاطر الأمنية وانتهاء بتدني مفهوم المواطنة.
الواقع أنه يوجد بعض من التعليم والقليل جداً من التربية, فلدينا أجيال ناشئة تنقصها الجدية في حياتها, ليس لها تفاعل مع بيئة العمل والعطاء من حولها, معزولة عن كل الحرف والمهن ولا تدرك منها إلا أسماءها. لم يعد الأب قادراً على إكساب أبنائه حرفته أو مهنته, فقد ولى ذلك الوقت الذي كان الأب يصطحب إلى العمل ابنه ليعمل, ليساعد أو حتى ليشاهد والده يعمل ويعرق من جبينه وينتج ويكسب. اليوم كثير من الأسر تعتمد على المدارس والمعلمين في إكساب هذه المهارات والتجارب لأبنائهم وبناتهم. في الدول المتقدمة معرفياً أسست برامج وأنشطة لإكساب أجيالها الناشئة تجارب عملية حقيقية في قطاعات صناعية وحكومية وإلكترونية وحتى ما يشبه التدريب العسكري من أجل أن يكون لديها أجيال تدرك مدى المسؤولية التي يقوم بها آباؤهم تجاه وطنهم.
ومن أجل أن يمارس الطالب ويحس بالمشقة في العمل عبر مناهج تربوية وأساليب تطبيقية تنشئ أجيالا قادرة نفسياً وجسدياً وذهنياً ومؤهلة تربوياً ومعرفياً بل قادرة على العطاء والإنجاز لنفسها ولوطنها. ففي كوريا الشمالية, على سبيل المثال, يعمل طلبة الثانوية في الدفاع المدني والإسعاف والبلدية وخدمة العجزة وغيرها. في بريطانيا والدول الأوروبية توجد برامج مشابهة ولها تأثير في أجيالها. وفي الولايات المتحدة تنتشر المدارس العسكرية الثانوية التي لا تستهدف توظيف الطلاب بقدر ما هي وسيلة لضبط السلوك ونشر ثقافة تربوية جادة تسهم في صقل الشخصية الوطنية للشباب الناشئ. ما نحتاج إليه هو أن تكون هناك برامج مشابهة, قليل من التلقين وكثير من التربية والتطوير لشخصية الإنسان السعودي الناشئ وإكسابه الثقة بالنفس من خلال تمكينه من القيام بكثير من المهارات والأعمال التي يمكن أن تصقل من خلالها مقدرته على التحمل وترفع من حبه لوطنه وتحسن من أخلاقه وتعزز رغبته في الحصول على المزيد من المعرفة وتقدير وشكر ما عُمل من أجله.
اليوم يقف كثير من المعلمين محتارين كيف لهم أن يقَوموا هذا الخلل الذي يعيشونه ويشاهدونه كل يوم. اليوم يوجد كثير من المعلمين الذين لا يملكون ولا يجيدون قليلا من المهارات التربوية, فمداركهم محدودة ومواردهم التدريبية أشبه بالمقطوعة, غطتهم أتربة السنين في بيئة لم يتغير فيها إلا القليل منذ أن بدأوا مهنتهم هذه. اليوم يوجد وزير جديد أُعطي الثقة الغالية ليكمل ما قام به في مشروع المجتمع والاقتصاد المعرفي وتبني كثير من الرؤى الوطنية والاستراتيجية والدراسات المستقبلية ذات البعد المعرفي. نائباه كذلك ممن لهم إسهامات كبيرة في مشروع ملكنا الغالي في الاستثمار المعرفي في الإنسان السعودي. اليوم كلنا أمل في الوزارة الجديدة, وكلنا نقدر مشقة الطريق المتبقية نحو بناء الإنسان السعودي المعرفي الذي يفتخر به ملكنا الغالي الذي وضعه محل كل الاهتمامات, آملاً من هذه الأجيال العمل والعطاء بمقدار ما عمل وأعطى وأنجز لأبنائه السعوديين ولمملكتنا الغالية.