الوطن أم القبيلة.. الموضوع خطير للغاية!

أكثر من ثلاثة آلاف موقع إلكتروني يدعو إلى الخطاب القبلي على الشبكة العنكبوتية، وكل هذه الآلاف من المواقع تتغنى بالقبيلة على حساب نظرية الوطن الواحد.
وتقول إحصائيات غير رسمية إن مرتادي هذه المواقع يتجاوزون الألوف يومياً، بمعنى إن هذه المواقع (وهذه المواقع بالذات) التي تنتشر على الشبكة العالمية.. تعد من أكثر المواقع الجاذبة للجمهور، وبالذات ممن هم في سن الشباب، إلى درجة أن معدلاتها تفوق معدلات المواقع الرياضية ومواقع الفن والتسلية.
ويجب أن نتذكر أن السعودية تأسست تحت راية واحدة وهى راية لا إله إلاَ الله محمد رسول الله، وقبل ذلك كانت الحروب بين القبائل تطحن الشباب وتدمر الأخضر واليابس في كل أنحاء شبه الجزيرة العربية.. حتى قيض الله ـ سبحانه وتعالى ـ لهذه البلاد قائدها ومجمع قلوب أبنائها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، الذي جمع جميع الطوائف والأعراق على مبدأ أن هذا الوطن للجميع وقاعدة العدل والمساواة هي الفيصل والحكم بين كل الناس. وكان الأمل بعد أن أسس الملك عبد العزيز هذه المملكة على مبادئ العدل والمساواة أن يكون التحلق حول القبيلة قد تراجع وأصبح في المركز الثاني ولا سيما أن الدين الإسلامي الحنيف الذي تربع على قلب كل إنسان سعودي، يقاوم النزعة القبلية ويدعو إلى الوحدة الوطنية، يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وقوله: "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا فضل لعربي على أعجمي إلاَ بالتقوى". وهكذا أصبحت الهوية السياسية لمجتمع السعودية هي الهوية الإسلامية وهي هوية مثالية في كل الأحوال.
أعود مرة أخرى إلى خطورة انتشار مثل هذه المواقع، والخطورة ستكون أكبر إذا ترك هذا المد من الفضائيات ينتشر أكثر فأكثر دون التحرك نحو احتوائها وتصحيح مساراتها ورسالاتها، ولا سيما أنه يشهد نوعاً من التوسع بشكل يبعث على القلق الشديد.
والغريب أن المتحلقين حول القبيلة يتخذون من بعض الأحاديث النبوية تكئة لإثبات أن الولاء يجب أن يكون للقبيلة قبل أن يكون للوطن، فيقولون إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلني من خير القبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً.
وتفسيرهم لهذه الأحاديث النبوية الشريفة أن الرسول يفاخر بالقبيلة والبيت، وهذا غير صحيح فالرسول هنا يفاخر بمنزلة النبوة في شخصه، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه"، ويقول الحق سبحانه وتعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة".
والمؤسف أن الانزلاق إلى القبيلة بدأ من محطات الشعر الشعبي حيث استخدم الشعر الشعبي في تمجيد الذات ومدح القبيلة مقابل ذم قبيلة أخرى، وغمز قبيلة ثالثة على حساب كل القبائل، وحتى تلتهب المشاعر أكثر وتفور النفوس على بعضها بعضا أغدقت الملايين من الريالات على الفائزين المادحين للقبيلة لتشتعل القرائح وتنزف شعراً يفاخر بالقبيلة على حساب الوطن الذي يعد حبه من الإيمان.
وهكذا عوضاً عن أن يحمل الشعر رسالة وطنية تدافع عن أمة الإسلام، فإذا به يرَوج للفرقة والتشرذم والانسلاخ من المجتمع الإسلامي الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
ولا شك أن الحل هو الاتصال والتواصل مع المسؤولين عن الفضائيات التي تعنى بنشر مبادئ القبيلة ومحاولة إقناعهم بتوطين هذه الفضائيات وحملها على الدعاية للوطن قبل الترويج للقبيلة، حتى تكون هذه المواقع قاعدة لنشر نظرية الوحدة الوطنية بين جميع المواطنين وفي جميع أنحاء السعودية.
إن الحكومة يجب أن تأخذ هذه القضية مأخذ الجد، وتضع برامج جادة لإعادة هيكلة برامج الوحدة الوطنية ونشرها بين جميع أفراد الوطن في كل أنحاء المملكة، وبالذات في الأطراف حيث بدأت تتسلل إلى مجتمعنا السعودي ـ من الأطراف ـ بعض النعرات العنصرية، ونؤكد أن حرية التعبير لم تكن قط ضد المصالح العليا للوطن، وإذا كانت كذلك فإن المصلحة العليا للوطن تتقدم على حرية التعبير.
إن المطلوب من الحكومة أن تهتم بمبدأ تكافؤ الفرص الوظيفية لكل السعوديين على قدم المساواة، والابتعاد عن توزيع المناصب والوظائف على الأساس القبلي والإثني، وهو ما يعد الشرارة الأولى التي أوقدت شعلة الاحتماء بالقبيلة والرجوع إليها على حساب الرجوع إلى الوطن.
الأغرب من ذلك أن بعض البيوت الحضرية العريقة في المجتمع السعودي.. اتخذت خطوات واسعة للانسلاخ من مجتمعاتها الحضرية والبحث عن جذور قبلية تحتمي بها.
ومع أن كثيراً من المحاولات في مجتمعات مكة وجدة لم تفلح في العثور على قبيلة تدعي انتسابها إليها.. إلاَ أن التوغل في البحث عن قبيلة أخذ يتسع شيئاً فشيئاً بين البيوت الكبيرة في مكة وجدة، حتى باتت وكأنها قضية من قضايا حق تقرير المصير.
وهناك كثير من المحاولات التي نعرفها والتي لا نعرفها تؤكد أن الخطر يتهدد بالفعل الوحدة الوطنية، ولذلك نستطيع القول إن هذا الكم الهائل من الفضائيات القبلية تعد بمثابة قنابل موقوتة يجب معالجتها وفضها لأن الاهتمام بالقبيلة في جميع شرائح المجتمع السعودي بات ـ للأسف ـ الخيار الأول، أمَا الاهتمام بالوحدة الوطنية فأخذ يتراجع ليصبح الخيار الثاني، وهذه مشكلة كبرى في الهوية السياسية.
وواضح مما سبق أن المعضلة ليست فقط في القبائل التي تفاخر بعرقها وتغمز قبائل أخرى بأساليب مهينة، وإنما تكمن المشكلة في معدل انتشار الخطاب الطائفي على حساب الخطاب الوطني الذي بدأ يتراجع في هوية وطن بأكمله، ولذلك يجب أن نقنع الجميع بأن الانتماء للوطن الواحد هو الخيار الأمثل في زمن التجمعات الكبرى والقرية الكونية الواحدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي