الأحلام . . . غذاء الطموح

تقول القصة إن هتلر كان مرة يستعرض فرقة من الجيش الألماني، وفاجأه منظر جندي كبير في السن، فلما سأل عنه قيل إن له في الخدمة سنين طويلة. ولما سأل هتلر عن سبب عدم ترقيته رغم طول خدمته، أجابه المسؤولون بأنه لم يطلب الترقية أبداً. فما كان من هتلر إلا أن أخرج مسدسه وأفرغ رصاصة منه في رأس هذا الجندي. ولما سئل عن ذلك، قال: يجب ألا يكون في الجيش الألماني شخص ليس له طموح. وسواء كانت القصة صحيحة أم لا، إلا أنها مصداق لتعلق الحياة بالطموح، ومن لا طموح له، لا مستقبل له.
الطموح ليس بالأمر المشروع فقط ، بل المطلوب على مستوى الأفراد والمؤسسات والدول. وليس من الحكمة أن تحلم بواقعية. الحلم تحكمه قوانين الأحلام، وتحده السماوات والأفلاك. الحكمة أن تخطط بواقعية لتصل لأقرب مسافة من حلمك.
يحزنني أن كثيرا منا يحلم بواقعية. وهذا ركون ودعة. لا ينبغي لأحلامنا أن تستجيب للواقع، بل الواقع يستجيب لها، وتنصهر سود جلابيب المستحيل حين يطول مساسها بشموع الأحلام. أنا أحلم، إذاً أنا أنمو. وليس من المقبول إخفاء الحلم، أو الخجل منه، أو التواضع دونه. فقبول الواقع والرضا به ليس أبداً من التواضع المحمود ولا الواقعية الفكرية. الواقعي هو من يخطط لبلوغ حلمه وينفذ هذه الخطط بآليات تستجيب لمتطلبات المرحلة وحدودها.
حين يحلم الفرد، فإنه يستشعر مكانه المستقبلي. وسواء وصل إليه أم لم يصل، فإنه يودع الدنيا حين يودعها مطمئناً أنه كافح طوال عمره لتحقيق حلمه، وقد نال منه قسطاً. والسعي لتحقيق الحلم جزء منه، ووسيلة لتجربته قبل إدراكه. وكم سمعنا بأناس وقابلنا بعضهم ممن يجدون لذة عميقة في عمل معين، وكأن الوسيلة انقلبت غاية، والسبيل هدفا.
حين تحلم المؤسسة، فإنها تضع هدفاً مستقبلياً، وترسم لنفسها خططاً لبلوغه. ينبغي أن تكون خططها بعيدة المدى، تنيرها لها فكرة قد تكون مستحيلة التحقيق في الوقت الراهن، ولكنها تبرر كل المشاريع والخطط والاستراتيجيات. يقنع القائد لجان مؤسسته وفرقها بقبول الحلم والسعي لتحقيقه. تظل أبد الدهر في السفح المؤسسات التي تضع أحلاماً واقعية قابلة للتطبيق في المستقبل القريب، وتهيم فوق شم جبال الإنجاز المؤسسات التي تتعاقب إداراتها وهي تعمل لتحقيق حلم بعيد وفكرة رائدة سامية.
حين تحلم الدولة، فإنها تضع هدفاً كبيراً لوضعها ووضع شعبها ومؤسساته ليس في المستقبل المنظور، وإنما في مجاهل الآتي من الأزمان، وتسعى لتحقيقه، عبر أجيال من القادة والمخططين والمنفذين. توضع الخطط، وترسم الاستراتيجيات، كل في مجاله، وتسير السفينة نحو غد مشرق وقد أمسك كل واحد بمجداف. من المحتمل ألا تصل السفينة لهدفها في المستقبل القريب. وقد لا يتحقق ذلك في حياة جيل واحد أو جيلين، ولكن طالما العمل مستمر فالدولة في الطريق الصحيح. ولا توجد دولة في تاريخ البشرية وصلت لأهدافها، أو حققت كل مبتغياتها. وإنما هي أحلام يتحقق بعضها، وتسقط الهمة عن بلوغ البعض الآخر.
الحلم المحمود هو ما يحفز على العمل، ويؤدي للتطوير والإنجاز. أما الحلم الساذج السلبي فهو الذي يقعد بك عن العمل، ويغني بنفسه عن السعي والطموح العملي. عندها يصبح الحلم أفيوناً يؤدي بصاحبه للخمول والموت التدريجي.
من لم يحلم فليس له طموح، فهو الزيت الذي يشعل قنديل الروح، منيراً ما حولها، وباعثاً فيها دفء الحياة. كل القناديل مصيرها للانطفاء، ولكن بعضها ينطفئ بعد أن قضت حياتها في النور، وبعضها يسير من ظلمة إلى ظلمة. يموت البعض بلا بوصلة من فكرة، ولا حلم كنجم الشمال يهديه سبيله في غياهب الدجى، فينتقل من موت إلى موت. ويسقط البعض وقد أجهد أفراس جهده في اللحاق بحلم شرود، ولما لم يصل إليه كان قد جال في الغابة تاركاً أثره في ثناياها، تاركاً لمن وراءه متابعة الحلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي