Author

معضلة التمويل في الاقتصاد السعودي

|
منذ أن بدأت مؤشرات الأزمة المالية تظهر على سطح الأحداث والبنوك السعودية تتحفظ في التمويل بشكل مبالغ فيه مما أثر تأثيراً بالغاً في مختلف أوجه الاقتصاد والتنمية، وحدثني من أثق بخبره من العاملين في البنوك، بأن البنوك عكفت على تغيير استراتيجياتها كليا خلال الأسابيع الماضية، فقد أوقفت أو كادت الإقراض خاصة للمشاريع الجديدة، كما قامت بمراجعة أسعار الفائدة وتكاليف التمويل ليس بهدف تخفيض الفوائد لمقابلة الانخفاض في تكلفة الاقتراض، ولكن لزيادة أسعار الفائدة بحجة مقابلة المخاطر المتوقعة بعيداُ عن المبررات الحقيقية وراء ذلك وهي استغلال حاجة المحتاجين وقلة المقرضين وانحسار السيولة في الأسواق. على الرغم من قيام مؤسسة النقد بتخفيض سعر الإقراض للبنوك المحلية بشكل تنازلي متواصل بهدف توفير السيولة في الأسواق عن طريق تشجيع البنوك على الاقتراض من مؤسسة النقد، وبالتالي ضخ السيولة بواسطة البنوك التي ستقوم بالإقراض للمستثمرين والأفراد والشركات، وعلى الرغم من تخفيض مؤسسة النقد الحد الأدنى للاحتياطيات القانونية للبنوك أيضاً لدعم موقف السيولة، وتشجيع البنوك على استخدام أموالها بأقصى طاقة ممكنة، إلا أن جميع محاولات مؤسسة النقد فشلت في تحفيز البنوك على الإقراض والتمويل بالشكل المتوقع، وبالتالي استمرت مشكلة شح السيولة في الأسواق. والتمويل للقطاعات الاقتصادية ليس خياراً نأخذ به أو نستغني عنه، ولكنه أساس لاستمرار الأسواق تعمل بشكلها الصحيح، فهو كالدم للجسد يحمل معه جميع مقومات الحياة إلى كل خلايا الجسم، ومؤسسة النقد تعمل كالقلب فهي المضخة التي تعيد ضخ الدم وفقاً لحاجة كل خلية، والبنوك إما ستعمل على توزيع الدم بشكل صحي، وإما ستمتنع فتكون كالجلطة في الشريان أو الوريد، وبالتالي ستعطل الخلايا التي تمر بها أو قد تقتلها، وقد تسهم في موت الجسم بأكمله!! على الجانب الآخر ترى البنوك أنها مؤسسات خاصة ويجب أن تعمل لتحقيق مصالحها، وبالتالي فإن الربحية القصوى أحد المكاسب المشروعة لها، كما أن من حق البنك أن يحمي أمواله وأموال مودعيه بالطريقة التي يراها صحيحة، والتدخل المباشر للجهات الحكومية سيحملها تبعات أي أضرار قد تحدث، لذلك يجب أن نتوقع عدم تدخل مؤسسات الدولة لإجبار البنوك على إقراض القطاع الخاص كما هو متوقع. هل سنقف عاجزين عن حل هذه المعضلة (مشكلة التمويل)؟ لا يساورني شك في أن هناك عديدا من الحلول، ولدى الدولة من الآليات ما يسهم في إنهاء هذه المشكلة بالكامل أو على الأقل الجزء الأكبر منها، ومن هذه الحلول ما يلي: 1) تسهيل وتعجيل إجراءات الصرف للمقاولين في وزارة المالية، وذلك بتخفيض الإجراءات الورقية، وإلغاء التعقيدات البيروقراطية، والتنزه عن النزعات البشرية. 2) صرف دفعات مقدمة للمقاولين بما يتناسب مع العقود المبرمة معهم وذلك عن طريق وزارة المالية . 3) تيسير الإقراض المباشر للمشاريع الكبرى عن طريق صندوق الاستثمارات العامة، وهذه القروض تتعلق بالمبالغ التي تزيد على 50 مليون ريال، وذلك للمشاريع الصناعية والتجارية والعقارية على حد سواء. 4) زيادة رأسمال صندوق التنمية الصناعي وكذلك البنك الزراعي، وتسهيل إجراءات إقرار القروض والصرف، مع أهمية السماح للصندوق بتمويل (أو على الأقل ضمان التمويل) رأس المال العامل للمشاريع المستمرة . 5) تحفيز البنك الزراعي لتمويل مزيد من المشاريع المتعلقة بالأمن الغذائي، وخاصة الموجهة إلى السوق المحلية. 6) تقييم مشروع "كفالة" الخاص بتمويل المنشآت الصغيرة، وتعديله ليضمن كامل مبلغ التمويل (بدلا من 50 في المائة) كما هو معمول به حاليا، أو القيام بالتمويل الكامل للمشاريع عن طريق صندوق التنمية الصناعي بدلا من البنوك ويمكن للصندوق التعاقد مع إحدى الجهات المالية لإدارة المشروع، مع الأخذ في الاعتبار معاملة المشاريع الصغيرة بما يتناسب مع حجمها وطبيعتها، خاصة من ناحية الضمانات. أعتقد أن مؤسسة النقد يمكنها إجبار البنوك على تمويل القطاع الخاص، بآلية لعبة القط والفأر نفسها التي تلعبها البنوك، فلو قامت مؤسسة النقد بسداد الدين العام الذي يخص البنوك وإعادته إليها، لوجدت البنوك أن لديها سيولة ضخمة ليس لها مناص من استخدامها، وسيكون الاستخدام الأمثل لها حينئذٍ متمثلاً في إقراض الغير، وهو المطلوب لاقتصادنا بوضعه الحالي. أعرف جيداُ أن مثل هذه المقترحات لا تغيب عن فكر المسؤولين في وزارة المالية وفي مؤسسة النقد، ولكن المشكلة في اتخاذ القرار والتنفيذ، بما يمكن العجلة الاقتصادية من أن تسير، وفي الحقيقة أن السير لا يكفينا فمطلبنا الحقيقي أن نركض ونسابق الزمن لتجاوز هذه الأزمة وآثارها في أسرع وقت، ولن يحدث هذا إلا بشراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص، وكل يوم يمر دون إدراك أبعاد هذه الشراكة والعمل لها سنحصد نتائجه مراً وعلقماً، ما بين تسريح المواطنين وفقدهم وظائفهم وإفلاس مؤسسات القطاع الخاص وخروجها من الخريطة الاقتصادية.
إنشرها