رسالة فلسطينية إلى سعودي
.. وصلتني هذه الرسالة من طبيبةٍ فلسطينيةٍ تعمل في مدينة جدة، وهي رسالةٌ تنطق أكثر من كلماتِها، وتفصِحُ أشدّ من سطورِها، وتضيءُ بإيمانِها .. (وتصرفتُ بتعديلاتٍ لغويةٍ ونحويةٍ في الرسالة، ويعلمُ اللهَ أني لم أمسّ من حرارةِ دفق العاطفةِ والفكرةِ بها، فهما أقوى من أن أجرؤ على مسِّهما):
"الأخ..
قرأتُ مقالاتـك المتتابعة عن غزة، وما كتبته بمرارةٍ في الجمعةِ الماضي في مقتطفات الجمعة، وما كتبته في مقال (هل نتخلص من حماس؟) في الجمعة الذي سبقه، وأطلعتني صديقتي المصرية (من أصلٍ غزاوي) على مقالاتٍ لك في جريدة "اليوم" من المنطقة الشرقية، ومقالٍ لك بالإنجليزية صدر في جريدة في الشرق الأقصى.. وكنت أرسلُ في البريد هذه المقالات لأهلي ومعارفي في غزة..
وما قلته، متخوِّفاً، أن يفهم الفلسطينيون السعوديين خطأ.. لأن بعض القنوات والكُتاب المحسوبين على السعوديين، قد أبدوا صورة لا تليق بالشعور السعودي الحقيقي، فأنا، ومعظم الفلسطينيين الذين يقيمون في هذا البلد الكريم، لا تمتلئ قلوبُنا لهذا الشعب الطيب إلا بالحبِّ والعرفان.. فلا تقلق يا أخي، حتى أولئك السعوديين، أو القنوات التي لم تعطِ ضحايانا صفة الشهادة، فلا أظنهم إلا متعاطفين معنا في النهاية بطريقتهم، ثم إن الشهادة نشعرها بدمِنا الذي يدور، وبعاطفتنا التي تتصل بالسماء.. فكما تعرفون وتشاهدون فإن الأمهات الفلسطينيات يزغردن عندما يموت الابنُ الغالي ويُزَف عريساً للجنةِ، البناتُ اللاتي رحلنَ للسماء عرائس مزيناتٍ بجلال الإيمان.. فلا تقلق يا أخي، لن ينال من هذا الشعورُ الإلهي الغامر أحد.. ولكني أطلب منك أن تواصل هذه الكتابات فهي تريح القلبَ والعينَ يا أخي، ويتداولها من تصلهم في غزة، رغم الظروف البالغة الحزن والألم، وصعوبة الاتصال بالإنترنت.. ولكنها تصل.
ويجب أن تعلم أننا كفلسطينيين لا ننسى المعروفَ، حتى من أخٍ أو أختٍ يؤمنون بقلوبهم أن ما يقدّموه لأهلهم في فلسطين من الواجبِ، ومن بواعثِ المحبة، ومن تلقائياتِ الأخوّةِ العربيةِ والإسلاميةِ والعرق الواحد، فالشكرُ والامتنانُ واجبان على أيِّ حال.. وأن تعلم أيضاً أن لا شيء سيشوّه ذلك أبداً، وما أدعو ربّي في كل صلاةٍ أن يديم هذا الزخمَ السعودي في دعمنا بفلسطين، ولقد قرأتُ اليوم وأنا أكتب إليك هذه الرسالة أن ما تبرع به السعوديون في أيّامٍ قليلةٍ بناءً على نداءٍ من خادم الحرمين الشريفين، لأن قلوبهم عامرة بالحبِّ لأهلهم في غزة، قد بلغ أو جاوز نصف المليار ريال سعودي، وهذا المبلغ يصنع العجائبَ في غزة.. هذا ما ننظر إليه يا أخي كفلسطينيين، وهذا ما نتوقعه يا أخي منكم، وبالتالي عندما تخرج أصواتٌ سعوديةٌ قليلة تعيد تفسيرَ ما يجري على أرض غزّة بطريقتها، فلا بأس مهما كانت الأجندة، فهي في النهاية قطرات وإن طفت على السطح، ولكنها تطفو على سطح بحرٍ من عاطفةٍ حقيقيةٍ وجارفةٍ من ملايين السعوديات والسعوديين.. ولا يغضبني هؤلاء، لسببين: الأول، أني متأكدة أنهم لا يضمرون لنا شراً بالأكيد، ولكن لهم مفهومهم الذي أثـّرت فيه انطباعاتٌ يعتقدون أنها الصحيحة لمساعدة الظرف الفلسطيني، والآخر أن ما يخرج في النهاية هو الخير رغم ما يدور حوله من الغثاء. ولأني لست قلقة ولست غاضبة، فأرجوك ألا تغضب وألا تقلق أيضا، فاللهُ يعلم، وهذا هو المهم.. أن ما في ضمائر الفلسطيني هو المحبة لإخوانهم وأخواتهم في السعودية، ويكفي أنكم تسمون الملك الراحل فيصل "شهيد القدس".. ونرجوك أن تواصل الحديث عن غزة، فتأكد أن الكلماتَ تصل، بل هي تدوّي عند الصديق، ولدى العدو..
ألا يكفيك يا أخي رغم قلة شأني (أعوذ بالله أن أوافق كاتبة الرسالة على ما تقوله في قلة شأنها، ولكني أنقل ما كتبَت.. ومبتهجاً بهذا التواضع الصادق.) أني كفلسطينية مشغولة بالبكاءِ على ما يجري لأهلي في غزة، ففي صباح هذا اليوم ضربت إسرائيلُ خيمة إيواءٍ - تصوّر خيمة، خيمة يا أخي..- واستشهد فيها أطفالٌ لابنة عمّةٍ لي.. وتصور انشغالي كطبيبةٍ وأم، ومع ذلك أحرص على كتابة هذه الرسالة الطويلة لك، لأني متأثرة من الأعماق وهو تأثرٌ قد لا يهدّ جبلَ الحزنَ الذي في قلبي، ولكن يزيحه ولو قليلا.. إنها الكلمة يا أخي، وأنهُ القلمُ، يجترحان العجائب..
رغم الدم، ورغم الدمع، ورغم القهرِ، رغم الأسى، ورغم قلةِ الحيلة، ورغم العجز.. إلا أني فرحتُ فرحاً داخليا بأن اللهَ معنا، ويرسل لنا رسلَ الغوثِ، وأنه سينصرنا، مهما بعُدَ أو قرُب الوقتُ.. ويكفي أن قلباً سعوديا ينبض من أجلنا ـ فهذا دليل على أن ملايين القلوبُ تتجاوبُ بذاتِ النبض..
(اللهُ يا رحيمُ، يا ودودُ، يا مجيبُ، يا مغيثُ، انصر أهلنا في غزة..) هذا آخر ما سمعته قبل مناوبتي الليلة.. من إمام مسجدٍ سعودي يقنتُ بكل صلاةٍ من أجل غزة..
قل لي: كم مئذنةٍ سعودية ترسلُ هذا النداءَ.. نداءٌ يصل إلى السماء.
وتبقى آراءُ من في الأرضِ على الأرض!
والسلام...
أختك الفلسطينية".