كيف نتحاور .. موضوعيا؟

من المهم في كل حوار أن نسلك الطرق العلمية والتزامها، ومن أهم سبلها تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى، وصحة تقديم النقل في الأمور المنقولة، وفق القاعدة المعروفة: "إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل" وقوله تعالى: ? قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ?، ومن ثم التأكد من سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة، ومن أمثلة ذلك وصف فرعون موسى عليه السلام بقوله: ?سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ?، وهو وصف قاله الكفار – لكثير من الأنبياء بمن فيهم كفار الجاهلية – لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء، أما المجنون فلا عقل معه البتة، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن.
ومن ضمانات المنهجية في الحوار الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة، وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق، وقُبحِ الكذب، وشُكر المُحسن، ومعاقبة المُذنب، وغيرها من الثوابت.
ومن أسس المنهجية ؛ التركيز على الأفكار، فهدف الحوار هو الاستفادة من الأفكار وليس تدمير الأشخاص، ولذلك؛ فإن من أهم ضوابط الحوار: التركيز على فض الاشتباكات الفكرية دون التعرض السلبي للأشخاص بتشويه أو تجهيل، فلا خلاف مطلقاً بين أشخاص المتحاورين، وإنما بين أفكارهم، والفكرة الحسنة تُمْتدح بغض النظر عن قائلها، والفكرة الخطأ تُرَاجع دون تسفيه قائلها أو التهكم عليه، فالنظر دائماً إلى الآخر من خلال ما قيل، لا من قال.
ولا شك أن التحاور ضمن هذا المبدأ، أي مبدأ افتراض المخالفة هو المدخل الذي يضع الآخر في أول الطريق الصحيح للتفكير، لأنه يرى أن من يحاوره يضع نفسه معه في موضع المجادلة المشتركة لمعرفة الحق؛ قال تعالى على لسان نبيه ?: ?وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ?.
وعلى المحاور تجنب التفكير السطحي الذي لا يغوص إلى أعماق المشكلات، ولا يدرك أثر العلاقات ببعضها، ولا يستوعب تأثير المتغيرات، بل يتوقف عند الأسباب الظاهرة للمشكلة، التي غالبا ما تكون أعراضا للمشكلات وليست جواهرها. وهو يغيب العقل، ويهمل العلم، ويغفل العمل، ويجافي سنن الله في الآفاق والأنفس. ومن سماته التفكير السطحي؛ إرجاع المشكلات والظواهر إلى عامل واحد، مع إغفال أن تعقيد المشكلات لا يستوعبه سبب واحد، وفيه قدر من التبسيط يتنافى مع عمق التجارب الإنسانية.
كما تقتضي المنهجية العلمية؛ عدم تغليب دوافع الذات وعواطفها وانحيازاتها الفكرية والاجتماعية على العناصر الحقيقية والعلمية للموضوع بحيث لا يتحدد الموقف بشكل تعسفي وعلى غير ما يجب أن يكون من صدق وأمانة وإخلاص وتوازن.
والحوار الناجح يضبط العلمُ مساره، وتوجه المنهجية الموضوعية المرتكزة على العلم موقف كل طرف فيه تجاه الآخر، فلا يستقيم حوار بدون العلم، بل في غيابه يصبح ضرر الحوار أكثر من نفعه، لأن جهود المتحاورين في هذه الحال تذهب سدى وتضيع بلا ثمرة تذكر .. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه".
ولقد عاب الله – جل وعلا – على أهل الكتاب المحاجة فيما لا علم لهم به فقال : ?هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? (آل عمران :66 ).

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي