ميزانية إعادة الثقة .. استقرار في ظل الأزمة العالمية

بحمد الله, أعلن أمس تفاصيل أكبر ميزانية في تاريخ المملكة العربية السعودية, وجاء إعلان ميزانية الدولة للعام المالي المقبل 2009, وكذلك بيانات ميزانية 2008 لتؤكد أن عهد الرخاء والإصلاح الاقتصادي في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين – قائد مسيرة الإصلاح الاقتصادي - هو عهد القيادة الاقتصادية السعودية على جميع المستويات، وجاءت تفاصيل الميزانية حافلة بكثير من المؤشرات الاقتصادية المعنوية لتعبر عن ثبات الدولة واقتصادها في ظل ترنح الاقتصاد العالمي تحت وطأة الأزمة، وأتت الأرقام لتؤكد أننا بالفعل الدولة الأكثر أماناً اقتصاديا واستثماريا. وتأتي الميزانية لتؤكد أن دعوة المملكة لقمة العشرين نتيجة حتمية لثقلها الاقتصادي وإدارتها الحكيمة التي كانت وما زالت تعمل لتكون المملكة في الرخاء بينما الآخرون في الشدة. ولا أبالغ إذا قلت إن الميزانية هي أهم رسالة عالمية لبث بعض الاطمئنان بأن الاقتصاد العالمي يملك لاعبين يستطيعون إرساء التوازن وبث الأخبار الإيجابية في ظل سيل عرمرم من الأخبار السلبية. فالناتج المحلي الإجمالي هذا العام (2008) وصل إلى نحو (1.753.500.000.000) ألف وسبعمائة وثلاثة وخمسين ملياراً وخمسمائة مليون ريال بالأسعار الجارية محققاً بذلك نمواً نسبته 22 في المائة مقارنة بنسبة 7.6 في المائة للعام السابق, ما يعطي دلالة على متانة الاقتصاد السعودي وعلى اطمئنان للمستقبل الاستثماري فيها. وعلى الطرف الآخر ميزانية متوازنة للعام المقبل 2009 تقدر بـ 475 مليارا على الرغم من دخول العجز فيها لأول مرة منذ عام 2002، إلا أنها تدل على استمرار الإنفاق في سبيل رخاء الوطن والمواطن وفيما تشهده أسواق النفط من هبوط.
والمتابع لتفاصيل الميزانية يدرك أن الدولة عملت للوصول إلى هذا المستوى من الأداء الاقتصادي المشجع والمتنامي منذ الخطة الخمسية الأولى عام 1970, التي هدفت إلى إيجاد اقتصاد متنوع والخروج من بوتقة الاقتصاد الأحادي المعتمد كلياً على النفط كمنتج وحيد وإيجاد مشاركة ملحوظة في الناتج المحلي من قبل القطاع الخاص بجزئيه البترولي وغير البترولي, التي ظهرت هذا العام بزيادة مقدارها 8 في المائة على العام السابق متلائمة مع التطور التاريخي لمشاركة القطاع الخاص في الناتج المحلي, فمن 25.5 في المائة عام 1972 إلى نحو 46 في المائة حاليا بنمو سنوي يقدر بنحو 6 في المائة, وهو نمو اقتصادي متوازن مدروس يتوافق بشكل كبير مع التوجه العام للدولة خلال خططها التنموية المتلاحقة.
#2#
وبالعودة إلى أرقام ميزانية عام 2008 إلا أن الإيرادات الفعلية بلغت 1.1 تريليون ريال في حين كانت تقدر بمبلغ 450 مليار ريال في بداية العام, أي أنها حققت زيادة 121.5 مليار ريال بنسبة نمو كبيرة جداً بلغت 144 في المائة عن التقديرات في بداية العام, وذلك بسبب الارتفاع المستمر لأسعار النفط عام 2008, التي وصلت متوسط 102 دولار للبرميل على الرغم من الانخفاض الكبير الذي صاحب الأشهر الأخيرة من العام, وكذلك بسبب التوقعات المتحفظة التي تنتهجها الدولة في الميزانيات السنوية, حتى نحن نرى توقعات عام 2009، فإن التحفظ سيكون مصاحبا بشكل مستمر لتوقعات الدولة لأسعار النفط, التي يتضح أنها ما زالت تراوح في حدود 40 دولارا للبرميل. من جهة أخرى, ارتفعت المصروفات إلى 510 مليارات ريال, بزيادة 100 مليار ريال على المقدر في بداية العام. ويتضح من تفاصيل الميزانية النمو الاقتصادي المتوازن الذي تنتهجه الحكومة والتركيز على تنمية الموارد البشرية والاهتمام بالقطاعات التي تمس المواطن بشكل مباشر، وشهد العام أكبر ميزانية مصروفات في تاريخ المملكة.
لعل الفائض في الميزانية للعام السادس على التوالي بعد أن ودعنا آخر عجز في الميزانية خلال عام 2002, إن هذا الاستمرار في تحقيق فائض في الميزانية هو مؤشر اقتصادي كبير على النمو الكبير الذي تحققه المملكة من ناحية الإيرادات مع المحافظة على نمو مناسب للمصروفات، وعلى الرغم من عدم تخصيص فائض الميزانية لمشاريع معينة بعد أن تكفلت فوائض الميزانيات السابقة لخطة خمسية تنفيذ مشاريع جديدة لبيت الله الحرام والمشاعر المقدسة وتركيزا كبيرا على الاستثمار في البنية التحتية للتعليم بشكل عام من خلال تخصيص ثمانية مليارات ريال من فائض ميزانية العام الماضي لدعم المدارس والجامعات والكليات, وهذا دليل التوجه الاقتصادي العام للاستثمار في طاقة هذا الوطن, وهي العنصر البشري, وهذا هو محور الطفرة الاقتصادية التي نعيشها, وهو ما شهدته المملكة خلال العام الماضي من قيام كثير من المشاريع ذات العلاقة المباشرة.
لا شك أن تخفيض الدين العام بهذا الشكل المتوازن هو الحفاظ على مستويات العرض النقدي بشكل يشجع على أن تكون هناك نظرة إيجابية مستقبلية للاقتصاد السعودي بعيدة عن تأثيرات الأزمة المالية العالمية, وتأكيد للثقة بتوافر سيولة كافية لبث الطمأنينة في الاقتصادين المحلي والعالمي. وأتوقع أن تكون تغطية العجز للسنة المقبلة من خلال فوائض الميزانية الحالية بشكل لا يدعو إلى الاستدانة بأي شكل واستمرار هذه المنهجية ستجعل مستوى الدين العام في أقل مستوياته خلال السنوات الثلاث المقبلة باستغلال فائض الميزانيات السابقة, وأتوقع أن يستمر في حدوده الحالية 13.5 في المائة من الناتج المحلي.
#3#
ميزانية 2009

أعلنت الدولة تقديراتها لإيرادات عام 2009 بما قيمته 410 مليارات ريال، وهي ميزانية متحفظة على أساس تقديري 40 دولارا لبرميل النفط، وكذلك انخفاض الإنتاج المتوقع في ظل ركود الاقتصاد العالمي، إلا أنها تعطي مؤشرا آخر على الاستقرار في توقعات الإيرادات, حيث إن توقعات هذا العام تقل بنحو 40 مليار ريال فقط, أي بنسبة 9 في المائة عن توقعات العام الماضي.
ولعلي هنا أركز بشكل موجز على المصروفات المتوقعة التي تعطي جميع الدلالات على الاستثمار الكبير الذي توليه الدولة للمواطن بالدرجة الأولى, ونجد أن كثيرا من المخصصات تمس حياة المواطن بشكل مباشر حتى في ظل الأزمات العالمية وتسريح الموظفين وإفلاس المصارف والشركات، تبقى المملكة العربية السعودية في إنفاقها على رفاهية المواطن وترسل رسالة واضحة للعالم أنها ما زالت تتمتع برخاء اقتصادي وبقوة شرائية قوية حتى في ظل وجود عجز يقدر بمبلغ 65 مليار ريال، إلا أن هذا العجز لن يؤثر في خططها التنموية, وتظهر الأرقام أن النفقات العامة التي حددتها الدولة للعام المقبل تبلغ 475 مليار ريال, أي بزيادة 14 في المائة على مخصصات العام الماضي وتقل بنحو 35 مليارا عن المصروفات الفعلية خلال عام 2008 . ولا شك أن هذه الزيادة تعد كبيرة جدا, خصوصا في ظل الأوضاع الاقتصادية العالمية ومساهمة القطاع الخاص في كثير من المشاريع, ولكن يظل المواطن في محور اهتمام الميزانية حتى في ظل المتغيرات الاقتصادية العالمية.
وبنظرة موجزة إلى بعض القطاعات التي ركزت عليها الميزانية فإن قطاع التعليم, إضافة إلى مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير التعليم "تطوير" بمبلغ تسعة مليارات ريال, فإن ما نسبته 25 في المائة من مجمل النفقات تم تخصيصها للقطاع العام بمبلغ إجمالي قدره 122 مليار ريال, أي بزيادة قدرها 16 في المائة عما خصص عام 2008. ولعل هذه الأرقام تثبت اهتمام الدولة, كما سبق أن ذكرنا, بالكادر البشري السعودي وتطوير وإعادة تطوير البنية التحتية للتعليم بهدف الوصول بالعنصر البشري السعودي إلى المستويات التي تتناسب مع البعد الاقتصادي للمملكة ومع الحاجة التي تتطلبها سوق العمل في المملكة. ولا شك أن التعليم هو حجر الأساس لخطط التنمية المستقبلية التي توليه حكومة خادم الحرمين الشريفين كثيرا من الأهمية وتوفير البيئة المناسبة له وزيادة الطاقة الاستيعابية للمدارس والجامعات والكليات المتخصصة وتوفير أفضل الوسائل العلمية الحديثة لتوفير المناخ المناسب لمستقبل المملكة التنموي. ولعل الشواهد التي نراها من افتتاح عديد من الجامعات الجديدة, وعلى رأسها جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية, وكذلك تأسيس شركة تطوير التعليم القابضة برأسمال مقداره 100 مليون ريال. هو دليل إثبات آخر على النهج الذي تنتهجه الدولة في تطوير الوطن والمواطن, ولذلك فقط كان التعليم صاحب النصيب الأكبر من ميزانية الدول لعام 2009.
أما الخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية بلغ نصيب هذا القطاع من ميزانية العام المقبل ما قيمته 52.3 مليار ريال أي بزيادة قدرها 18 في المائة عما تم تخصيصه في العام الماضي 2008، وبنسبة زيادة تزيد على زيادة العام الماضي.
#4#
إن الشكل المرفق يوضح أن جميع القطاعات في الدولة حظيت وتحظى بدعم كبير في ميزانية العام المقبل وامتداد لتطوير القطاعات التي تهم المواطن بالدرجة الأولى التي تمس حياته اليومية، ولذلك فإن الزيادة عندما تأتي في ظل التخوف من الركود الاقتصاد العالمي تعطي مؤشرات مضاعفة على اهتمام الدول بالنمو والرفاهية للمواطنين.
في الختام فإن ميزانية هذا العام تختلف من ناحية التوقيت والحجم عن أي ميزانية سابقة في تاريخ المملكة، فالإعلان يأتي متزامنا مع هلع عالمي كبير حول مستقبل الاقتصاد العالمي وعن تبعات أزمة الائتمان, وكذلك فإنها تأتي بعد مشاركة المملكة في قمة العشرين وإعلانها ضخ 400 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة في مشاريع البنية التحتية. وتأتي بعد أن أثبت الاقتصاد السعودي متانة عالية في القطاع المالي بشكل عام والقطاع البنكي بشكل خاص، وهذه المتانة تأتي من خلال التشريعات المتحفظة التي حافظت على المكاسب. كذلك فإن هذه الميزانية تأتي وأسعار البترول تترنح تحت حاجز 50 دولارا. وتأتي هذه الميزانية بعد أن أعلنت الحكومة حوافز ضريبية للمستثمرين في بعض مناطق المملكة بهدف دعم وتشجيع رؤوس الأموال وتوسيع دائرة الاستثمار لتشمل جميع المناطق, خصوصا الأقل نموا، وعدم تركيزها في المناطق الرئيسة. وتأتي هذه الميزانية بعد أن أكد صندوق النقد الدولي مرة أخرى خلال مناقشة مجلس إدارته في تموز (يوليو) لعام 2008 متانة اقتصاد المملكة. وتأتي هذه الميزانية بعد أن رفعت وكالة فيتش التصنيف الائتماني للمملكة إلى AA-، وأكد التقرير أن القوة الائتمانية للمملكة تكمن في أصولها المحلية والخارجية الضخمة وانخفاض الدين الحكومي. وتأتي هذه الميزانية بعد أن تضمن تقرير البنك الدولي عن مناخ الاستثمار لعام 2009 تصنيف المملكة في المرتبة 16 من بين 181 دولة تم تقييم الأنظمة والقوانين التي تحكم مناخ الاستثمار فيها متقدمة من المركز الـ 24 الذي حققته عام 2008 ومن مركز 35 في 2007. وتأتي هذه الميزانية بعد أن أعلن نتائج تقرير الاستثمار العالمي 2007 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، الذي أكد أن السعودية حلتّ الأولى عربياً، والعشرين عالميا في قائمة البلدان المتلقية للاستثمار الأجنبي المباشر، حيث بلغ مجموع التدفقات إليها في عام 2006 نحو 18 مليار دولار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي