الاستثمارات وتوزيع المخاطر
من حسن حظ المملكة العربية السعودية أن وهبها الله سبحانه وتعالى مساحات شاسعة ذات عمق جغرافي مميز وسواحل بحرية طويلة ما يوفر لها خيارات واسعة لتوزيع استثماراتها سواء كانت على هيئة مجمعات صناعية ضخمة Mega Projects أو غيرها. وما يعزز هذا التوجه العقلاني الرؤية بعيدة النظر لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، أمد الله في عمره, بإنشاء مدن اقتصادية في بقاع متعددة من الوطن تتوافر فيها البنية الأساسية والطاقة اللازمة. ذلك أن الأوضاع الجيوسياسية السائدة في العالم اليـوم، ولاسيما على المستوى الإقليمي، تجعل من الواجب عند دراسة جدوى المشروعات الاستراتيجية أو ذات الاستثمارات الكبيرة أن نراعي بشكل أكثر من ذي قبل عنصر المخاطر المحتملة المرتبطة بالمواقع المتاحة لتلك المشروعات عند مفاضلة موقع منها على الآخر.
إن دراسات الجدوى التي تغفل عنصر المخاطر وتقتصر فقط على تناول العناصر التقليدية كحجم السوق, المواد الخام, إمدادات الطاقة, التمويل, وغيرها, لم تعد كافية لرسم صورة عادلة ومتكاملة عن أي مشروع على المدى الطويل, وبالذات إذا كان موقعه يجعل صادراته معتمدة على حركة نقل بحري رهينة بوتيرة المواجهات الإقليمية التي تتصعد بين الحين والآخر وما يتبع ذلك من ارتفاع في أسعار التأمين وأجور الشحن. ثم هناك نوع آخر من المخاطر المرتبطة بمواقع أكثر من غيرها كالزلازل والأعاصير التي قد يمتد دمارها إلى نطاق واسع. وما يؤكد أهمية دراسة المخاطر المحتملة وتوزيعها أن المملكة مقبلة على بناء عدد كبير من المجمعات الصناعية الضخمة تزيد المبالغ المستثمرة في كل منها على 20 مليار دولار, ومرافق استراتيجية لتحلية المياه وتوليد الكهرباء بقدرات واستثمارات غير مسبوقة.
صحيح أن المملكة لديها تجربة سابقة في بناء وإدارة مجمعات صناعية ضخمة عندما أنشأت المدينتين الصناعيتين في الجبيل وفي ينبع قبل أكثر من 30 عاماً, غير أن المشهد على الساحة الدولية والإقليمية يومئذ يختلف تماماً عما هو عليه اليوم. وكنت قد كتبت في مقالات سابقـة عن نشأة تلك المدينتين, والأسباب التي أفضت إلى اختيار موقع كل منهما من بين ما كان هناك من خيارات. بالطبع كان من أهم تلك الأسباب القرب من مصدر الطاقة, وكذا القرب من مياه عميقة تسمح ببناء مرافق بحرية قادرة على استقبال أكبر السفن لنقل المنتوجات بأقل تكلفة اقتصادية إلى الأسواق العالمية. كما تناولت في تلك المقالات الظروف التي تضافرت في تلك الفترة لإقناع الشركات الأجنبية من الشرق والغرب للدخول كشركاء استراتيجيين في مشروعات صناعية عملاقة ما وفر للمملكة تقنية متقدمة وتسويقا لكل ما تنتجه من بتروكيماويات, وأسمدة, وغيرها.
ذلك الإقبال من الشركات الأجنبية لم يدم طويلاً إذ إن دافعه كان ضمان الحصول على كميات من النفط بسعر السوق لآجال طويلة, وهو أمر لم يعد يشكل هاجساً لها بعد أن انقلبت المعادلة في النصف الأخير من التسعينيات من القرن الميلادي الماضي وأصبحت السوق مشبعة بالنفط وما تبع ذلك من تدهور مخيف في الأسعار. لكن التطورات المتسارعة في سوق النفط خلال السنوات الأربع الماضية، بعد أن اخترق سعر البرميل حاجز الثلاثين دولارا، بدأت تشكل مرة أخرى حافزاً للشركات الأجنبية للاستثمار في المملكة وبالذات في المشروعات ذات الاستخدام المكثف للطاقة.من بين تلك المشروعات مجمع "بترو رابغ" على ساحل البحر الأحمر الذي شارف تشييـده على الانتهاء, ومجمعات أخرى لم تزل في مراحلها الأولى كمجمع "معادن" في رأس الزور, مجمع"أرامكو – داو", ومجمعات للقطاع الخاص تقع جميعها على ساحل الخليج العربي تفصل بينها مسافات قريبة نسبياً, وإن كان البعض منها قد تعاد برمجته بسبب الأزمة التي برزت أخيرا في أسواق المال العالمية.
إن دراسة المخاطر المحتملة المرتبطة بالمواقع المتاحة للمشروعات الاستراتيجية العملاقة، سواء كانت ملكيتها للحكومة أو القطاع الخاص, لا ينبغي تناولها بشكل مجزأ بل لا بد أن تكون هناك رؤية وخطة وطنية تضع معايير ومنهجية موحدة يمكن في إطارها تقويم كل حالة على حدة. ذلك أن الهدف من تلك الدراسة في نهاية المطاف ليس تقليص المخاطر المحتملة لكل مشروع بشكل منفرد فحسب, وإنما توزيع تلك المخاطر المحتملة للاستثمارات في مجموعها على مستوى المملكة. ومن ثم لا بد من إسناد تلك المسؤولية إلى جهة رسمية متخصصة لديها الأدوات اللازمة للاضطلاع بها كالمجلس الاقتصادي الأعلى أو مجلس الأمن الوطني، وفي ذلك السياق نرى دورا لصندوق الاستثمارات العامة (صندوق الأجيال) بحسبانه شريكا رئيسا وممولا للسواد الأعظم من المشروعات الكبرى, إذ يمكن للصندوق من منطلق مصلحته المباشرة ومسؤوليته العامة أن يشارك بشكل فاعل في تمويل برنامج تقويم لتلك المخاطر على نحو دائم مستمر.
إننا نتطلع إلى تلك الخطوة كأداة مطمئنة لجذب المزيد من رؤوس الأموال و تدفق الاستثمارات مهما كانت الجهة التي ستتولى ذلك الملف, أو الآلية المختارة.