في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة المنافسة بين واشنطن وبكين حول الهيمنة على مجال الذكاء الاصطناعي، تشهد الأسواق مفارقة لافتة، إذ تواصل رؤوس الأموال الأمريكية تدفقها للاستثمار في شركات الذكاء الاصطناعي الصينية.
هذا الحراك الاستثماري يتسارع رغم الخطاب السياسي والإعلامي المتشدد من الجانب الأمريكي تجاه بكين، وتحديدا قطاع الذكاء الاصطناعي لديها، لكنه في الوقت ذاته يعكس قناعة متنامية لدى كبار المستثمرين بأن الصين باتت لاعبا محوريا في هذا السباق العالمي.
خلال هذا العام، ضخ المستثمرون الأمريكيون مليارات الدولارات في أسهم شركات التقنية الصينية، خصوصا العملاقة منها مثل علي بابا وتينسنت وبايدو، لترتفع أسهم هذه الشركات بنسب تراوح بين 50 و80%، مدفوعة بنجاحها في تطوير نماذج قادرة على منافسة نظيراتها الأمريكية، مثل نموذج "ديب سيك" الذي جذب اهتماما عالميا بوصفه منافسا جديا لنماذج وادي السليكون.
ويشير المحلل المالي في بورصة لندن كريد مايلز إلى أن الاستثمارات الأمريكية المتدفقة على قطاع الذكاء الاصطناعي الصيني لا تقتصر على الأسهم.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن "الصناديق المتداولة في البورصة الأمريكية وتتابع قطاع التكنولوجيا الصينية سجلت نموا غير مسبوق، وبعضها قفزت قيمتها من 1.4 مليار دولار إلى نحو 9 مليارات دولار".
وتعزز البيانات الأمريكية المالية الصادرة خلال 2025 هذا الاتجاه، إذ تكشف عن قفزة كبيرة في تدفقات رأس المال الأمريكي نحو الذكاء الاصطناعي الصيني.
ضخ مستثمرون أمريكيون ما يقدر بين 21 و24 مليار دولار في أسهم شركات الذكاء الاصطناعي والتقنية الصينية المدرجة في هونج كونج ونيويورك، فيما رفعت صناديق كبرى حصصها في هذا القطاع بنسبة تراوح بين 12 و18%.
كما سجلت صناديق التكنولوجيا الصينية المتداولة في نيويورك تدفقات تتجاوز 3.2 مليارات دولار منذ يوليو، وهي أكبر زيادة منذ خمسة أعوام.
ويصبح التساؤل لماذا تندفع رؤوس الأموال الأمريكية للاستثمار في قطاع الذكاء الاصطناعي في الصين رغم القيود التشريعية المتزايدة؟
ترى الدكتورة إيفلين ماثيسون، أستاذة النظم الاستثمارية، أن الأداء القوي للنماذج الصينية منخفضة التكلفة مقارنة بنظيراتها الأمريكية يعد عاملا حاسما في هذا الاتجاه.
وتوضح لـ"الاقتصادية" أن "تكلفة تدريب النموذج الصيني Kimi K2 لا تتجاوز 4.6 ملايين دولار، مقارنة بمليارات الدولارات التي تنفقها الشركات الأمريكية الكبرى. هذه الفجوة تمنح الشركات الصينية ميزة تنافسية واضحة وتجذب المستثمرين الباحثين عن عوائد أعلى مقابل مخاطر أقل".
وتضيف ماثيسون أن هذا العامل رغم أهميته ليس العامل الوحيد، فقطاع الذكاء الاصطناعي في الصين أصبح أيضا خيارا فعالا لتنويع المحافظ الاستثمارية وخفض المخاطر، خصوصا مع تزايد الحديث عن فقاعة محتملة في وادي السيلكون وتضخم تقييمات السوق الأمريكية.
ومؤخرا زاد من زخم التدفقات الاستثمارية الأمريكية قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب السماح لشركة إنفيديا ببيع بعض أنواع الرقائق الإلكترونية المتقدمة إلى الصين، بعدما كان تصدير هذه الشرائح محظورا لأسباب تتعلق بالأمن القومي.
ورغم الجدل المستمر داخل الكونجرس والنظر لتلك الخطوة بأنها بمثابة تهديد مباشر للمصالح الأمريكية، إلا أن الأسواق قرأت القرار باعتباره انفراجه مهمة ستسهم في تسريع تطوير النماذج الصينية وقدراتها في الذكاء الاصطناعي.
ويقول لـ"الاقتصادية" الدكتور واتسون هولدن، أستاذ الاقتصاد الدولي، إن "تدفق الاستثمارات الأمريكية على الذكاء الاصطناعي في الصين يعكس حقيقة أساسية مفادها أن سباق الذكاء الاصطناعي لم يعد محكوما بالجغرافيا السياسية وحدها، بل بقوة السوق وقدرتها على جذب رؤوس الأموال، حتى عندما تتحرك السياسة في الاتجاه المعاكس".