بينما تتجه الأنظار نحو الصراعات التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة وشركائها، أعلنت سنغافورة عن مراجعة استراتيجية اقتصادية شاملة تهدف إلى إعادة رسم ملامحها الاقتصادية في مواجهة التغييرات الراهنة.
سنغافورة، الدولة المدينة التي ارتبط جزء كبير من ازدهارها الاقتصادي بكونها المركز المالي الأكثر استقرارا في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا، تسعى اليوم لتجاوز هذا التعريف واضعة نصب عينيها التحول إلى مركز تجاري وتكنولوجي متكامل يقود الابتكار في المنطقة.
تمثلت الخطوة الأولى في هذا التحول بإطلاق "مراجعة الاستراتيجية الاقتصادية". وعلى الرغم من أن النتائج الرسمية لهذه المراجعة ستعلن منتصف العام المقبل، إلا أن الاتجاه العام يشير إلى أن سنغافورة مقبلة على تغييرات هائلة في رؤيتها الاقتصادية لنفسها.
ترمب يترك بصمته في الاقتصاد السنغافوري
الدكتور "إل. فرانكلين"، أستاذ الاقتصاد الآسيوي، يرى أن التوترات التجارية العالمية والرسوم الأمريكية الجديدة تركت آثارا سلبية في اقتصاد سنغافورة الذي يعتمد على الانفتاح التجاري الكامل.
ولـ "الاقتصادية" قال: "في ديسمبر الماضي، بلغت نسبة التجارة من السلع والخدمات في اقتصاد سنغافورة نحو 326% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يضع البلاد في دائرة التأثر الكبير بالبيئة التجارية الدولية. ونتيجة الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس ترمب بدأ النمو الاقتصادي يظهر علامات تباطؤ".
لم يعد في مقدور سنغافورة الاعتماد فقط على إعادة التصدير أو الخدمات المالية، بل باتت هناك حاجة ماسة لتحفيز تطوير قطاعات التكنولوجيا والابتكار، بحسب فرانكلين.
التحول نحو الابتكار بوصلة سنغافورة
يرى خبراء أن التحولات التكنولوجية، خصوصا في مجالات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية التي تعيد صياغة سلاسل القيمة والإنتاج في آسيا، مثلت دافعا رئيسيا لسنغافورة لإعادة النظر في هيكلها الاقتصادي، آملة أن يكون التحول المقبل في هيكلها الاقتصادي بمنزلة استثمار مربح في الاتجاهات المستقبلية للاقتصاد العالمي عامة والآسيوي على وجه التحديد.
أن. دي. ليم، الباحث السابق في منظمة التجارة الدولية، قال لـ "الاقتصادية": "إن إعادة سنغافورة النظر في منظومتها الاقتصادية يهدف بالأساس إلى التحول نحو اقتصاد الابتكار، على أمل الخروج من مركزية الاعتماد على العولمة التقليدية، وأن تكون أكثر قدرة على تبوء مركز قيادي في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الخضراء".
من المؤكد أن سنغافورة لن تتخلى عن موقعها الريادي كمركز مالي، لكنها ترمي إلى التحول إلى مركز اقتصادي متعدد الأبعاد، ليس فقط في الخدمات المالية والتجارية، بل أيضا في المجالات التقنية، على أن يمثل ذلك العصب الرئيسي لاستراتيجيتها الاقتصادية المقبلة.
وترى الدكتورة أماندا هولدن أستاذة السياسات الدولية، أن الجهود السنغافورية للتحول إلى مركز اقتصادي متكامل قائم على الابتكار والتكنولوجيا لا يمكن فهمها فقط في إطار التحولات الداخلية، إنما أيضا في سياق المنافسة المحتدمة مع هونج كونج.
منافسة ذات طابع مختلف
المنافسة بين الجانبين لم تكن يوما خفية، لكنها باتت اليوم تأخذ شكلا جديدا، فبينما تسعى هونج كونج إلى تعزيز موقعها كمركز للأصول الرقمية والتمويل الصيني، تراهن سنغافورة على التكنولوجيا والابتكار والتجارة العالمية.
وتقول الدكتورة هولدن للاقتصادية "سنغافورة لا تحاول تجاوز هونج كونج فحسب، بل تسعى لإعادة تعريف مفهوم المركز المالي الآسيوي ليشمل الابتكار والذكاء الاصطناعي، وبينما تعمل هونج كونج لتكون بوابة الصين إلى العالم الخارجي، تركز سنغافورة على ترسيخ موقعها الاقتصادي من خلال الحياد الجيوسياسي".
لكن الطموح السنغافوري لإعادة التكيف ليس سهلا، فتنويع الاقتصاد يتطلب موارد ضخمة واستثمارات طويلة الأمد في البنية التحتية، كما أن جذب الكفاءات التقنية في ظل المنافسة الشرسة مع مدن آسيوية أخرى مثل سيول وشنغهاي وطوكيو يمثل تحديا إضافيا.
وقد أشارت تقديرات رسمية إلى أن البلاد ستكون في حاجة إلى نحو 100 ألف وظيفة جديدة في مجال التكنولوجيا بحلول عام 2030، أي ما يعادل ضعف ما هو متاح حاليا.
ويختم الدكتور إل. فرانكلين قائلا "تاريخ سنغافورة يكشف قدرة نادرة على التكيف، فمن دولة فقيرة بالموارد الطبيعية إلى واحدة من أعلى معدلات الدخل في العالم، كما أثبتت خلال العقود الماضية مرونة اقتصادية لافتة، لكن التحول نحو اقتصاد الابتكار يتطلب أكثر من السياسات المالية المعتادة، إذ يستلزم خلق منظومة اقتصادية متكاملة تسمح بتحويل الأفكار إلى منتجات قابلة للتصدير، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي سيواجه سنغافورة".

