الدول الفقيرة تمول نظيرتها الغنية
عندما يتحدث جان – كلود تريشيه رئيس البنك المركزي الأوروبي, محذرا من الأخطار التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي فلا تغيب عن حديثه أبدا الإشارة إلى " اختلال التوازن العالمي ". وبالمثل يحذر صندوق النقد الدولي وأعداد لا حصر لها من معاهد الأبحاث أيضا وبصورة منتظمة من أن العجز المتزايد في التجارة الخارجية الأمريكية يخفي في طياته خطر حدوث تخفيض مفاجئ للدولار، وهو ما يمكن أن يحدث اضطرابات عنيفة في الأسواق المالية وفي الاقتصاد ككل.
غير أن اثنين من الاقتصاديين، هما ديفيد فولكرتس – لانداو وبيتر جاربر يناقضان وجهة النظر السائدة.فوفقا لتحليلاتهما تعتبر حالات "اختلال التوازن" على نطاق عالمي ظاهرة ضرورية ملازمة للازدهار الاقتصادي في البلدان الناهضة – وهي لهذا السبب لا تشكل خطرا. والأهم من ذلك : أن انتقاداتهما تقودهما إلى تفهم ما هو ضروري من أجل أن تتطور البلدان الناهضة. وهما بذلك يروجان لوصفة جديدة للسياسات التنموية. إن فولكرتس – لانداو يشغل حاليا منصب رئيس فريق البحث الدولي في دويتشه بنك بينما يشغل جاربر وظيفة الخبير الاستراتيجي الأول للفريق في نيويورك. وقد سبق للاثنين أن لفتا كثيرا من الانتباه لنظريتهما " بريتون وودز 2 " كما واجها أيضا معارضة شديدة. ومفاد فرضيتهما هو أن النظام النقدي الحالي مستقر تماما مثل نظام النقد الذي رسمته اتفاقية بريتون وودز الذي شكل من 1944 حتى 1971 على أساس نسب التبادل الثابتة بين العملات, إطارا لعمليات إعادة الإعمار في أعقاب الحرب العالمية الثانية, وذلك على الرغم من كثرة الشكاوى بشأن اضطراب التوازن.
إن نقطة الانطلاق في دراستهما الجديدة هي ملاحظة أن بلدانا ناهضة كالصين والهند وروسيا وتشيلي قد راكمت خلال السنوات الماضية احتياطيات هائلة من العملات الصعبة يتكون الجزء الأكبر منها من أوراق النقد الأمريكية. ويقول الاقتصاديان إن هذا يشكل تناقضا وفقا للنظرية التقليدية لأن هذا يعني أن رأس المال يتدفق إلى حد ما نحو الأعلى أي من البلدان الفقيرة غير المتطورة إلى أغنى اقتصاد في العالم وهو ما يمكن من انخفاض حصة الادخار من عائداتها إلى الصفر تقريبا ويوسع من طاقاتها الاستهلاكية.
ووفقا للنظرية التقليدية فإن هذا يدعو للتوقع بزيادة الاستعداد في البلدان الغنية للادخار. وفي مجرى البحث عن عوائد مغرية فلا بد لهذا الرأسمال من أن يتدفق إلى البلدان الفقيرة التي هي بحاجة ماسة إلى رؤوس الأموال, من ناحية, وتتوافر فيها إمكانات عديدة للتطور وتحقيق الربح, من الناحية الأخرى. وبناء على ذلك يجب أن تكون البلدان الناهضة مستوردة صافية لرأس المال, وليس, كما يلاحظ, مصدرة بمئات المليارات من الدولارات سنويا. وتحت عنوان " توافق واشنطن " يقول فولكرتس – لانداو وجاربر بأن النظرية التقليدية هي التي طبعت بطابعها السياسات الاقتصادية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والدول الصناعية الكبرى طوال العقود الماضية مما تسبب في وقوع أضرار بالغة. وهكذا كان ثمة ترحيب, على سبيل المثال, بالتدفقات المالية على أمريكا اللاتينية – مع أنه حدثت هناك انهيارات اقتصادية, وقد تكرر السيناريو نفسه في التسعينيات في البلدان الآسيوية.
إن السبب الأعمق لهذه الكارثة الاقتصادية كان يكمن, وفقا لكلا الاقتصاديين, في صعوبة تحصيل الجهات الدائنة ديونها على البلدان الناهضة. وقد كان هذا يوفر للدول المدينة الحوافز الخاطئة للتصرف بالأموال المستدانة بنوع من الطيش الذي سرعان ما يترجم إلى عدم القدرة على الدفع. كما كان إدراك هذه العواقب المحتملة يردع المستثمرين عن الالتزام باستثمارات مباشرة كبيرة في البلدان الناهضة. ولهذا لم يصل الأمر في تلك البلدان لبناء المصانع ونقل التكنولوجيا الحديثة وخلق أماكن عمل جديدة.
ويحاجج الاقتصاديان بأن بعض البلدان الناهضة, وعلى رأسها الصين, قد سلكت في السنوات الماضية طريقا جديدا: حيث أبقت على سعر صرف عملتها متدنيا بطريقة مصطنعة وذلك من خلال التدخل في سوق العملات الصعبة, وهو ما جعل هذه البلدان, بالنسبة للشركات الأجنبية, جذابة كموطن للإنتاج للسوق العالمية. وقد كان لهذه التدخلات هدف آخر أيضا : فمن خلال شراء هذه البلدان للدولار بشكل خاص يصبح لديها احتياطي نقدي تقوم البنوك المركزية في البلدان الناهضة باستثمار الجزء الأكبر منه في سندات الخزانة الأمريكية من خلال المؤسسات النقدية في الولايات المتحدة.
ويعد فولكرتس – لانداو وجاربر إن نقطة الانطلاق تتمثل في اعتبار هذا الاحتياطي من العملات كنوع من أنواع الرهنية, حيث إن بوسع حكومة الولايات المتحدة, مثلا في حالة حدوث نزاع مع الصين, أن تجمد الودائع الصينية لدى البنوك الأمريكية. ومعرفة ذلك توفر ضمانات أكبر للمستثمرين بأن حكومة البلد الناهض المعني ستحجم عن وضع العقبات في طريق المستثمرين والمقرضين الأجانب أو مصادرة أموالهم بطريقة تعسفية. وقد مكن " تعادل المخاطر " هذا رأس المال الخاص من التدفق بكميات كبيرة على البلدان الناهضة والمساهمة في تنميتها الاقتصادية عن طريق بناء الصناعات الحديثة.
إن النظر من هذه الزاوية يظهر تطابقا بين التنمية الحالية وقوانين الرشد الاقتصادي: إذ عندما تريد دولة من الدول الناهضة أن تنجز تصنيعها بسرعة فلا بد لها من الحصول على تدفقات كبيرة من رأسمال الخاص والتكنولوجيا. ومن المعروف أن رأسمال الخاص يقوم في البلدان النامية ببناء مصانع تنتج للسوق العالمية. أما فائض التصدير الذي يتحقق بفضل عملات ذات قيمة متدنية فهو من الضخامة بما يمكن من بناء احتياطي نقدي كبير. وهذا الاحتياطي أيضا يخدم مقدمي رؤوس الأموال كنوع من أنواع الرهنية مما يشجع على تدفق المزيد من رؤوس الأموال على البلدان الناهضة مما يدفع عجلة التنمية الاقتصادية فيها إلى الأمام من خلال خلق أماكن عمل جديدة من خلال نقل التكنولوجيا. ولكي يتحقق ذلك , يقول الاقتصاديان، ينبغي لدولة غنية كالولايات المتحدة أن تؤدي الدور المقابل, أي أن تحقق فائضا في الاستيراد, وبالتالي أن تسمح ببروز حالة من "عدم التوازن". وفي النهاية ستكون جميع أطراف المعادلة رابحة, ولن يكون هذا الترتيب مؤقتا بحال من الأحوال, وإنما يمكن أن يستمر لفترة طويلة.
ويرى الاقتصاديان أن أطروحاتهما يمكن البرهنة على صحتها بالأرقام. ومن أجل ذلك قاما بحساب حجم المبلغ الذي ينبغي لرجل الأعمال أن يستثمره إذا ما أراد أن يؤمن استثماراته المباشرة وما أصبحت عليه بعد نمو قيمتها بقوة في بلد كالصين. ويقول فولكرتس – لانداو وجاربر إن النتيجة تتساوى تماما مع الزيادة في احتياطي العملات. وبالمثل يمكن التوصل إلى النتيجة نفسها بتساوي إجمالي الاستثمارات المباشرة مع احتياطي العملات في 49 من البلدان الناهضة.