الحب ما بين انحسار النظام الإقطاعي وصعود الثورة الصناعية

الحب ما بين انحسار النظام الإقطاعي وصعود الثورة الصناعية
الحب ما بين انحسار النظام الإقطاعي وصعود الثورة الصناعية

"لست بحاجة إلى زوج." تصف تلك العبارة شخصية الشابة المستقلة باتشيبا إيفردين في الفيلم البريطاني "بعيدا عن الحشد الصاخب"، وذلك خلال الحقبة الفكتورية حيث تعتمد المرأة على الآخرين في زمام أمورها، حيث تعاند ذلك التيار مستنكرة لفكرة الارتباط، لتعتمد على ذاتها ماديا ومعنويا.

الفيلم درامي يحمل طابعا رومانسيا من إخراج توماس فينتربرج لمايو عام 2015، مقتبس من رواية الروائي والشاعر البريطاني توماس هاردي بالعنوان ذاته لعام 1874، وهي روايته الرابعة، التي نشرت على دفعات في مجلة "كورنيل" ومن ثم أكسبته شهرة عالمية. وقد تم اقتباس الرواية من خلال أفلام سينمائية أربع مرات أولها في عام 1915.

تتمحور فكرة الفيلم والرواية حول شخصية باتشيبا ذات الجاذبية النابعة عن عدم حاجتها إلى الآخرين أو الاكتراث بحالهم الذي تسببت فيه، إذ توفي والداها وهي صغيرة فأدى ذلك إلى تبلد أحاسيسها تجاه الآخرين أو الاكتراث بالعادات التي تلزمها البحث عن زوج يحميها، فيما استقلت لتمتلك مزرعة وتقوم بإدارتها كنظرائها الرجال.

ليحاول ثلاثة أشخاص يحمل كل واحد منهم شخصية مغايرة للآخر إقناعها بالاقتران به، أهمهم شخصية البطل المغمور جابريل أوك الذي فقد ثروته واضطر إلى العمل في إدارة مزرعتها، ليقف إلى جانبها بعشق صامت.

وثانيهم صاحب المزرعة المجاورة الغني ذو الشخصية القوية وليام، الذي يستمر في محاولة إغوائها والتملص من ضغوط كبر سنه بقدرته على إسعادها بماله ونفوذه.

وآخرهم الجندي الوسيم فرانك تروي بقدرته على إغوائها واختيارها له بسبب انجذابهما. فيما تلتزم هي جرأة لا مثيل لها في رفض الآخرين. تجيب أحدهم محاولة رفضه دون تخوف من التجريح: "أنا شخصية مستقلة للغاية بالنسبة لك. إذا قررت ذات يوم الارتباط، فإنني أرغب في شخص يقوم بترويضي، وأنت غير قادر على ذلك مطلقا"، وكأن الفيلم يعكس انصياع المرء لجلاده، أو من يعامله بقسوة ليحاول بشتى الطرق إقناعه بمدى جدارته وإن استمر ذلك لسنوات.

#2#

"من الصعب على امرأة التعبير عن مشاعرها عبر لغة قام الرجال بابتكارها للتعبير عن مشاعرهم." تقول باتشيبا ذلك في محاولة تبرير قسوتها وعدم قدرتها على التعبير عن أحاسيسها الدفينة عبر كلمات عابرة.

وإن يظهر من اختيار الروائي توماس هاردي شخصية باتشيبا، تمثيلها للموجة الناقدة على المجتمع والعادات التقليدية، لتضع لها خيارات في حياتها حسب أهوائها في ظل القيود الاجتماعية التي تلتف حول من عاش في الحقبة الفكتورية. إضافة إلى تجسيد وضع المرأة المتمدنة التي تحاول تغيير تلك النظرة الدونية التي دفعت بالتجار لعدم تقبل التفاوض مع المرأة للتعامل معها.

فيما نجح المخرج توماس فينتربرج في تجسيد حياة ملاك المزارع في الحقبة الفكتورية، من خلال انتقاء الأزياء التي تعكس ذلك بألوان داكنة وأقمشة رثة بعض الشيء وكأن في ذلك دلالة على العمل المضني الذي يعكف عليه المزارعون، والأثاث الخشبي.

فيما استمد المخرج من استقاء السيناريو من رواية كلاسيكية القدرة على الاستعراض بالخضرة والألوان الخلابة للمناظر الطبيعية في المناطق الإقطاعية، بالتحديد في المنطقة التي افتتن بها هاردي ويظهر تكرار اختياره لها كونه ترعرع فيها، أي في جنوب غرب إنجلترا، فيما أطلق عليه مسمى "ويسكس"، بعيدا عن توتر وضوضاء الحياة.

وإن تسبب ذلك في اتسام الأحداث ببطئها، أضف إلى ذلك اللكنة البريطانية البطيئة والصمت المتكرر في مشاهد عدة.

"بعيدا عن الحشد الصاخب"، هو عنوان يظهر محاولة أفراد مختلفون التمرد على المتغيرات الحالية والابتعاد عن الصخب الذي ظهر بسبب انحسار النظام الإقطاعي وصعود الثورة الصناعية التي استبدلت تلك العادات والتقاليد، بتلاشي تلك القيم.

وظهور الاستقلالية والدفاع عن الحقوق، وتمثل شخصية باتشيبا المحورية تلك المتغيرات، باستقلاليتها المادية والعاطفية، وعدم اعتمادها على الرجل ودحض حاجتها إلى الارتباط.

فيما تبرز النظرة التقليدية للخير والشر في طريقة وصف الشخصيات، ما بين تروي الأقرب للشخصية السوداوية النزقة والحاملة لنزعة الشر، والذي تكتشف مساوئه بعد الارتباط وانطفاء جذوة اللهفة والتوق بانعدام إحساسه بالمسؤولية، فيما تظهر الشخصية الملائكية لجابريل صاحب الشخصية المسؤولة الحذرة والذي يرافق باتشيبا ويعبر عن ضميرها الذي يحاول إيقاظها من تلهفها على الانجذاب الجسدي بينها وبين الرقيب تروي.

يظهر اختيار المخرج التلاعب بالألوان والإضاءات القاتمة لوصف الحالة النفسية للشخوص، فباتشيبا تلتزم بالألوان الداكنة فيما يرتدي الرقيب تروي بزة عسكرية حمراء، تظهر حالة الاشتعال بينهما.

فيما يبرع توماس هاردي في إبراز دور الفلسفة القدرية، ومدى تأثير القدر والمصادفة في القرارات الذاتية. كالتقاء جابريل المفاجئ بباتشيبا وهي على متن الحصان، ورسالتها العبثية لجارها في عيد الحب التي تسببت بتعلقه بها.

فيما يعد ظهور زوجها المفاجئ بعد الاشتباه بغرقه أكبر تهكم بدور القدر ومدى تلاعبه بحياة الشخصيات. في الوقت الذي يلعب فيه عامل الزمان تأثيرا في العلاقات سواء تعميقها أو تلاشيها.

إذ إن ذلك الزمن هو الذي تسبب في اكتشاف باتشيبا مساوئ زوجها الرقيب "تروي" كالخيانة وانعدام المسؤولية. في الآن ذاته الذي مع مرور الوقت بدأت فيه باستيعاب شخصية ومشاعر صاحب المزرعة المجاورة. فيما يحسم مضي الوقت مشاعرها حيال جابرييل.

تلك الحيرة بين ثلاث شخصيات تمتلك جاذبية وتباينا في الطباع، تظهر التضاد ما بين المسؤول والنزق، الشخصية المتقدة بالحب والأخرى الأكثر عملية، الشاب والمتقدم بالسن، وعدم التكافؤ الاجتماعي بسبب الفقر المفاجئ لجابريل. فيما تغلب ثيمة محاولة الهروب من المتغيرات واللجوء إلى حالة الهدوء المرافق للحياة الريفية، وإن كان من الصعب تحقيق ذلك فعليا.

الأكثر قراءة