في الـ «طابق 99» .. الجميلات لا يسألن كثيرا
"لماذا يبدو الحب دائما كأن له تاريخ انتهاء؟" عبارة مقتبسة من رواية "طابق 99" للروائية اللبنانية جنى فواز الحسن، الصادرة عن منشورات الصفصاف ودار الاختلاف، التي رشحت الرواية للقائمة القصيرة من جائزة البوكر للرواية العربية في دورتها الثامنة، لعام 2015. "لعنة الطابق 99" لساكني ذلك الارتفاع تلتف حولهم، فتحيطهم بكآبة وارتباك لبعدها عن حقيقة واقعهم في أوطانهم الأصلية. "أنت في القمة، في الطابق 99 من مكتبك ثم يرميك أحدهم، أو شيء ما هكذا.
كيف تحافظ على توازنك بعدها؟" الرواية التي تبدو لأول وهلة وكأنها تتعمق في معاني الحب تحفر في تشوهات النفسيات لترثي الحب وترقبه يضمحل بهدوء.
الرواية تحكي قصة حب شائكة بين مجد، الفلسطيني الأعرج الذي يمتلك ندبة في وجهه حفرت في ذاته، وبين هيلدا، اللبنانية المسيحية التي يربطها بجريمة انتمائها لأسرة متورطة بجرائم صبرا وشاتيلا.
أحداث الرواية تتفاوت ما بين عام 1982 والمجزرة الأليمة لتنتقل إلى عام 2000، لتؤرق الأحداث التاريخية قصة العشق، ليقتنع كل منهما داخليا أن عليهما تبادل المقت دون قدرة على ذلك.
فيظهر الحب كحالة انهيار وإدمان وعدم قدرة على التنصل منه. "قالت إنها أرادت أن تتوحدني لتصبحني".
حالة إحباط
الرواية تعد محاكمة قاسية للحب ولأصحابه، وإن كانت قائمة على قصة حب، إلا أنه يظهر مشوها تتخلله شكوك وقلق وجودي والوصول إلى مرحلة اندحاره. كمجد الذي اختار أن يعشق محترفة الرقص ليتملص من رؤيتها ترقص على المسرح بسبب عقدة قدمه.
كما يظهر ذلك من خلال استهلال الرواية ببوح مجد الذي يستخدم عبارات بصيغة الماضي "كان يحلو لي أن أتأمل انعكاسها".
تندفع صفحات الرواية بسيل عاطفي يتفاوت ما بين التغزل والإسهاب بالمديح في هيلدا وكيف غيرت له مسار حياته. "كلما فكرت في هيلدا، شعرت كما لو أن خلايا الجلد التي تآكلت من وجهي ورسمت فيه تلك الندبة، صارت تلد خلايا أخرى نضرة وطازجة".
إلا أن ذلك ببطء يستحيل إلى توقع منه بانتحار الحب، واستباق للأحداث ورثاء للعلاقة لمجرد رغبتها في معاودة زيارة موطنها. يستمر النحيب ليصفها بأنها تتلاشى أمام عينيه. ويكتشف من خلال علاقته معها عقد الرجل الشرقي ورغبته في اختيار امرأة مغلفة، وتقييد حرية المرأة وعجنها كما يريد. "نأتي بجلدنا معنا إلى أرض جديدة، ونتظاهر أننا ما عدنا من قبل". بل يصبح تميز شخصيتها الذي افتتن به بداية ما ينفره منها. يندحر الحب ويستحيل إلى ألم.
" لكن حبها، على قدر ما كان يجب أن يخلصني، دمرني". بل "كان يصفها بـ"عقابه" من الحياة وكانت فعلا كذلك، المرأة الصحوة التي توقظ رجلا من أوهامه عن ذاته". وتمعن بتذكيره بعقده وأحداث صبرا وشاتيلا التي تسببت بإعاقته ذاتيا وجسديا. "كل يوم أقول أني سأنسى أمرها ولكن الغضب يتآكلني". يقابل ذلك اتهام من قبلها. "أنت أيضا تريدني كما ترسمني". ومحاولة استعادة ذلك الألق لبداية العلاقة بتحسر. "لماذا تبدأ العلاقات دائما بدهشة، وتنتهي بالخمول والبلادة؟".
#2#
تزخر رواية "طابق 99" بثيمات يتكرر التطرق إليها مرارا. كاستخدام رمزية المرايا كانعكاس للواعج القلب والتقلبات النفسية، ما بين شخص أدمن تأمل نفسه في المرايا وأخرى تتجنبها. يحاول إقناعها باكتشاف ذاتها من خلال انعكاس صورتها في المرآة، إلا أن تمرسها في ذلك المجال ينفره منه. "عندما بدأت هيلدا تستمتع بلعبة المرآة صرت أكرهها".
فيما يبرز استقاء جنى الحسن رمزية هشاشة الجسد بوجود ندبة في وجه مجد وساق مبتورة يعرج بسببها للاستدلال بذلك بتلك الجروح الداخلية الدفينة، إذ يرفض إجراء أي عمليات ويفضل إبقاءها لتذكيره بماضيه. يظهر تشابه ما بين شخصية مجد في الرواية وشخصية خالد ذو الذراع المبتورة في رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي.
باستثناء إمعان مجد في انهزاميته وتمتعه بمازوشية مراقبة ألمه وتشوهه ليتوحد معها، كما يذكر: "نما في داخلي مع الوقت، إحساس بأن هذه الندبة هي أنا، تختصرني، صرتها". يمتزج ذلك مع تضارب أحاسيسه تجاه أصوله الفلسطينية، ما بين شعوره بالذنب حيال أبناء جلدته، بالأخص مع اعتقاده بأن هناك اضطهادا مستمرا للفلسطينيين، ونظرة سلبية بأنهم شعب مكروه، وتوقع بأن ما يقال خلف الكواليس عنهم.
تجريم الرجل
هناك إمعان في تجريم الرجل وتصرفاته يظهر من خلال الشخصيات الذكورية في الرواية. فالتفاوت سلبي ويصب في بوتقة ذم الرجل. ما بين أب هيلدا المتسلط الذي يرغم الآخرين على الإيمان بمواقفه. ورجل خائن كمحسن الذي اختار التنصل من جلده وتغيير اسمه إلى مايك الممعن بالخيانة ومحاولة إيجاد مبررات ساذجة "لم تكن خيانة.. كان هروبا من الوحدة".، فيما يتسلق قمة الهرم مجد المتهالك وكأنه أشبه بشخصية عجوز أعرج انهزامي يندب حظه.
حالات الانهيار تستمر ممتزجة بضياع الهوية لتمتد إلى المرأة كذلك تحاول التمرد بشتى الطرق على السلطة الذكورية. سواء كانت هيلدا أو شخصية المكسيكية إيفا المتهالكة التي تسببت علاقتها بمايك بانهزامها كما تصف: "جعلتني أنظر إلى وجهي وأراه قبيحا". وتقبع الأمريكية ماريان في انتظار زوجها "جون" الذي لا يزال غائبا منذ سافر ليحارب ولا تزال في انتظاره.
رحلة هيلدا
تطغى على الرواية أزمة الهوية وضياعها، والإحساس بالغربة بداخل الوطن. ليجد البعض منهم نيويورك موطنا جديدا دون وجود قناعة تامة بذلك. "كنت أرى في نيويورك ملاذا آمنا، كأنها مدينة الغرباء". إلا أن هيلدا التي وصفها مجد بأنها أشبه بفتاة تراقص طريقها خارج الظلمة، تغوص في تساؤلات داخلية حول أهمية زيارة موطنها والتفكر في طفولتها على الرغم من غرابة معاناتها، إذ تقع تحت عبء الحياة المرفهة، وإمعان السلطة الأبوية الإمساك بزمام الأمور ولو عن بعد.
ومحاولة التخلص من وصايا بيئتها التقليدية كمن ينصحها بأن: "الفتيات الجميلات لا يسألن كثيرا". الرواية كلما اقتربت من النهاية ابتعدت عن رتابة أحداث حياة مجد ورثاؤه المستفحل لهيلدا، ليفصح عن الشخصية الحقيقية لهيلدا واكتشاف حياتها ومحاولاتها التمرد على السلطة الذكورية. بل تظهر على السطح شخصيات جانبية لافتة كان من الأحرى دخولها أحداث الرواية من البداية، كالأخت ماتيلد والعم جورج وتماثيله المبتورة الأطراف وحالات انهياره، لتصب كل تلك الأحداث في بوتقة القلق النفسي والتشوهات الداخلية مع وجود محاولات للتخلص من ذلك التأزم.
"إن التحرر من الألم شعور جميل، نستحقه من أمضينا أعمارنا نمشي على الشوك".
الرواية حافلة بعبارات ذات عمق فلسفي، وتكشف عن مشروع روائية ناجحة، قادرة على العمل على سرد أكثر إسهابا وحبكة أكثر توازنا. ففكرة رقص هيلدا تمد القارئ بتوق لقراءة وصف جمالي لرقصها الناطق بتألمها. "فقط حين يتغلب الرقص على الموسيقى، حين يطوعها.. يصبح رقصا".