أبو ظبي تبني مدينة الغد لاستغلال الطاقة الخضراء
ربما تجيب الأغلبية العظمى من الوهلة الأولى على هذا السؤال جوابا خاطئـا. والسؤال هو: من سيبني أول مدينة خالية من السيارات ومن غاز ثاني أكسيد الكربون ؟ مدينة، لن تحتاج إلى التخلص من النفايات على الإطلاق وتختبر النظم الجديدة للحركة المرورية البديلة ؟ مدينة سيعمل فيها العلماء ورجال المصارف والشركات جنبا إلى جنب على اختراع مصادر طاقة متجددة واستغلالها استغلالا تجاريـا ؟ من سيبني أول مجتمع سيعمل على تطوير الحلول لمدينة الغد ؟
الجواب ليس ألمانيا، تلك الدولة الرائدة في قطاع الطاقة المتجددة (الطاقة الخضراء) والجواب كذلك ليس دولة صناعية كبرى أخرى مستهلكة للطاقة الأحفورية.
إن هذه المبادرة أطلقتها مدينة تقع على الخليج العربي.. إنها إمارة أبو ظبي عاصمة دولة الإمارات, التي تختزن تحت ترابها 8.5 في المائة من احتياطي النفط المستكشف و3.3 في المائة من احتياطي الغاز المستكشف. ويقول سلطان الجابر رئيس هيئة المديرين في مؤسسة أبو ظبي للطاقة المستقبلية "أدفيك"Abu Dhabi Future Energy Company - Adfec: "الاتجاه نحو استغلال الطاقات المتجددة ما هو إلا خطوة منطقية لمواصلة تطور ثروتنا الأحفورية". ويضيف "نحن نتمتع بمصادر طاقة جيدة، فلماذا نحصر اعتمادنا فقط في الطاقة الأحفورية التقليدية؟". ولكي تحافظ على دورها في هذا المجال حتى بعد نضوب هذه الطاقة الأحفورية، قررت أبو ظبي من هذا المنطلق الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة.
مؤسسته "أبو ظبي للطاقة المستقبلية" هي الذراع التشغيلية لحملة "مصدر". وكان ولي عهد الإمارة، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، قد قام بطرح هذه الحملة في نيسان (أبريل) عام 2006 بحضور رؤساء مجالس إدارة شركات البترول العملاقة في العالم. وبهذه الحملة ألزمت إمارة أبو ظبي نفسها بأن تعمل في قطاع مصادر الطاقة المتجددة، وأطلقت عليها اسم "مصدر". ويوضح الجابر مبدأ هذه الحملة قائلا "مصدر ستكون منبعا لاختراعات وإبداعات وروح عمل". وقد أنهى الجابر دراسته في الهندسة الكيماوية من جامعة لوس أنجلوس" UCLA وحصل على الدكتوراة في الاقتصاد من جامعة كوفنتري البريطانية. ورؤية الجابر المستقبلية هي أن يشكل من "مصدر" شركة عالمية للطاقة المتجددة.
وأكثر مشاريع "مصدر" ضخامة وهيبة هو مشروع "المدينة الخضراء" التي ستقوم على أرض مساحتها ستة كيلومترات مربعة وستصبح اعتبارا من عام 2009 "وادي السليكون" Silicon Valley للطاقة المتجددة. ويقول الجابر بكل ثقة "في هذه المدينة سنقوم على تطوير حلول لمشكلات الطاقة في العالم". وسوف يعيش ويعمل في هذه المدينة علماء باحثون ومبدعون. أما المدينة نفسها فستكون نموذجـا في حد ذاته، حيث سيتم تزويدها بالتيار الكهربائي الناتج عن الطاقة الشمسية، والتي سيتم تجميعها عبر خلايا تجميع شمسية ومن محطة لتوليد الطاقة الشمسية. وأما النفايات الصلبة فسيتم تحويلها إلى أسمدة، وسيكون هناك نظام مواصلات سيضمن للجميع الحركة والتنقل داخل المدينة التي ستكون خالية من السيارات. وعلى خطوط نقل ستكون هناك عربات تسير بالطاقة الشمسية ستنقل كل فرد لوحده حتى مسافة 200 متر على الأقل إلى أي نقطة داخل المدينة.
وسيلقي الظل على المدينة الخضراء سقف "ذكي" سينظم الحرارة أيضا من خلال ماء مبخر. ومن النقاط المثالية في المشروع، نقطة تمويل المشروع العقاري الذي سيستغل للتمويل " سندات الكربون الربحية "، حسبما ينص عليها بروتوكول كيوتو. وقد أبدت البنوك العالمية الكبرى "اهتماما خياليا" بالمشاركة في المشروع، كما يقول الجابر. ومن المقرر أن يضم المشروع منشآت أبحاث وكذلك شركات خاصة وبنوكا. وستكون المدينة منطقة اقتصادية حرة. وبهذا سيكون في مقدور الأجانب امتلاك الشركات بنسبة 100 في المائة ولا يحتاجون إلى ذلك شريك محلي. وسواء كان فردا أو شركة، فكلاهما لن يدفع ضرائب، وبهذا سينصب اهتمام المستثمرين لجميع الاستثمارات في مصب واحد فقط. ويعد الجابر بأن الإطار القانوني لحماية حقوق الملكية الفكرية سيكون واسعا وشاملا في آن واحد. وفي هذه المدينة سيقع المقر الرئيسي لـ "معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا" والذي اتفق في كانون الأول (ديسمبر) الماضي مع المعهد الأمريكي العريق في مدينة بوسطن "معهد ماساشوستس للتكنولوجيا" Massachusetts Institute of Technology - MIT على التعاون. وسيقدم معهد الأبحاث الجديد في مجال الطاقة المتجددة تخصصات دراسية دولية ومشاريع أبحاث لدرجتي الماجستير والدكتوراة. وقال الجابر "أبو ظبي، التي تستورد لغاية الآن التكنولوجيا، ستكون بذلك ولأول مرة مقرا للأبحاث ومصدرا للتكنولوجيا". وسترتبط أبو ظبي مع الأبحاث العالمية عبر شبكة أبحاث تشارك فيها ست منشآت أبحاث من أوروبا، وأمريكا الشمالية واليابان، ومن هذه المنشآت جامعة آخن التكنولوجية "آر في تي هـ" RWTH والمعهد الألماني للملاحة الفضائية والجوية "دي إل آر" DLR بمعاهده الـ 28.
وإلى جانب "إدفيك" والمدينة الخضراء، والمعهد وشبكة الأبحاث سيمثل "صندوق الدعم للتكنولوجيا النظيفة" حجر أساس آخر لحملة "مصدر". وقد تأسس صندوق الدعم في أيلول (سبتمبر) عام 2006 بحجم مبدئي يبلغ 250 مليون دولار. وأولى مشاركاته كانت في أوروبا وفي أمريكا الشمالية. وفي ألمانيا منح صندوق الدعم شركة "سولفورسل سولار تشنيك" Sulfurcell Solartechnik GmbH من مدينة برلين العاصمة، إحدى الشركات المتخصصة في تصنيع الوحدات الشمسية المنتجة للطاقة الكهربائية، دعما ماديا لتمويل تنمية وتطوير أعمال الشركة. ولا يزال صندوق الدعم يبحث في المانيا عن شركات آخرى جذابة.
بالإضافة إلى ذلك تدفع حملة "مصدر" بحملات أخرى في مجال "معالجة الكربون". ويقول الجابر إن (مصدر) تسعى لتطوير مشاريع تستطيع من خلالها ربح "سندات الكربون الربحية". ولتحقيق أولى الخطوات أطلقت (مصدر) دراسة واسعة النطاق تبحث كيف تستطيع أبو ظبي أن تعيد استخدام غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج من عملية استخراج البترول، للحقن في آبار البترول. ويوضح الجابر رسالة الدراسة؟؟ قائلا "أبو ظبي ستربط بذلك ثلاثة أشياء مع بعضها: نحن سنخلص الجو من غاز ثاني أكسيد الكربون، ومن خلال الحقن بالغاز الفائض سنرفع من إنتاجية حقولنا النفطية، وسوف نحرر النفط المصدر من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي كنا نستخدمه لغاية الآن في عمليات الحقن".
ومن خلال مشروع المستقبل "مصدر" تسير أبو ظبي خلف أربعة أهداف: المشروع سيدعم تنوع اقتصاد البترول إلى الأمام وسيجعل من الإمارة مصدرّا للتكنولوجيـا؛ وسيوسع المشروع كذلك من دور أبو ظبي في سوق الطاقة العالمية، بالإضافة إلى ذلك سيسهم المشروع من خلال التعليم والأبحاث بتطور الإمارة اقتصاديا على المدى الطويل.
دفعة انطلاق حملة "مصدر" جاءت من منظمة "المبادلة". هذه المنظمة لديها مهمة في أبو ظبي هي تطوير مشاريع استراتيجية تسهم في تطوير الاقتصاد القومي على المدى الطويل. وكان الجابر قبل توليه منصب رئيس هيئة المديرين في "أدفيك" أحد مديري المشاريع القياديين في المنظمة. والفكرة الأساسية في منظمة "مبادلة" هي تأسيس شركات جماعية مع مؤسسات أجنبية، تكون فيها أبو ظبي صاحبة رأس المال والشريك هو صاحب التكنولوجيا والأفكار المبدعة. ويقول الجابر "نحن نتطلع دائما إلى قطاعات جديدة تستطيع أبو ظبي فيها أن تتولى دور القيادة".
وكان الجابر قد بحث عن أفكار جديدة، عندما قام في مطلع عام 2005 بحملتي استكشاف لـ "مصدر". حملة الاستكشاف الأولى والتي بدأت في ألمانيا، حملته إلى ست دول في أوروبا وأمريكا الشمالية، وأما الثانية فقد كانت حملته إلى آسيـا. وكان هدفه من حملتي الاستكشاف هذه هو اختبار ردة فعل هذه الدول على دخول دولة مثل الإمارات في سوق الطاقة المتجددة. وكانت ردة الفعل إيجابية جدا. ولكن الجابر كان يبحث عن تكنولوجيا جديدة متطورة، واستطاع أن يعثر على ضالته، ولكن اكتشف في الوقت نفسه، أنها مشتتة في أماكن عديدة وبعيدة كل البعد عن التطبيق. وهاهو الآن يريد أن يجمع الباحثين ورجال الأعمال، البنوك وصناديق الدعم للقطاع الخاص في مكان واحد. وهذا التجمع من شأنه أن يساعد على تطبيق الأفكار الجديدة في قطاع الطاقة المتجددة.
ويقول الجابر إنه من خلال المبدأ الرئيسي لحملة "مصدر" ستخلق أبو ظبي جماعات إنتاجية سيجد فيها العاملون الدوليون الظروف المثالية من أجل تطوير حلول طويلة المدى لمشكلات الطاقة والبيئة في الغد القريب. فالباحثون سيطورون أفكارا جديدة، والمصرفيون نماذج مالية جديدة. والجابر مقتنع تمام الاقتناع، بأن العديد من الدول ستتبنى الأفكار والمشاريع المطورة في أبو ظبي. ويقول "إذا بدأت دول أخرى في التفكير على شاكلتنا نفسها، سنكون قد تفادينا أضرارا أخرى قد تلحق بالعالم". وبهذا لن يكون للمبادرة معنى لأبو ظبي فقط، بل للعالم كله، "وفي يوم من الأيام سيتم بناء جميع المدن مثل هذه المدينة الخضراء".