منظمة التجارة العالمية بين يديك الحلقة (36)

منظمة التجارة العالمية بين يديك الحلقة (36)

منظمة التجارة العالمية بين يديك الحلقة (36)

ازدهار أمريكي وكساد أوروبي (1920 - 1940)
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتمتع بازدهار اقتصادي نسبي لم تشاركها متعته الدول الأوروبية الأخرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا. استطاعت الشركات الأمريكية الكبرى، خلال هذه الحقبة الزمنية، التأقلم مع احتياجات الأسواق العالمية، فلجأت إلى تحقيق مبدأ الإنتاج بالجملة Mass Production والذي أطلق عليه فيما بعد - ولمدة قصيرة - فورديزم Fordism نسبة إلى هنري فورد Henry Ford الذي بدأ في تطبيق هذا المبدأ على صناعة السيارات في مدينة ديترويت الأمريكية Detroit . ولد هنري فورد في مدينة ميتشجان Michigan في الولايات المتحدة الأمريكية يوم 30 تموز (يوليو) 1863م، وترك دراسته في سن الخامسة عشرة ليلتحق بمزرعة والده ثم انتقل إلى مدينة ديترويت للعمل في إصلاح الساعات والتدرب على التصنيع ليصبح فيما بعد من أشهر منتجي السيارات في العالم.
قام هنري فورد بإنشاء وتطوير خطوط التجميع Assembly Lines لاستخدامها في تصنيع السيارات من قبل العمَّال الفنيين أنصاف المتخصصين Semi - Skilled ، واستطاع إنتاج أول سيارة Model T في خلال 14 ساعة فقط. ولقد أدى هذا النمط الجديد في التصنيع إلى تخفيض تكلفة إنتاج السيارة الواحدة من ألف دولار أمريكي في عام 1908م إلى 360 دولارا في عام 1916م. وسارع أصحاب المصانع الأمريكية إلى حذو خطى هنري فورد في استخدام خطوط الإنتاج لتصنيع المعدات الثقيلة والأجهزة الكهربائية وغيرها ما أكسب المنتجات الأمريكية ميزة نسبية Comparative Advantage استطاعت من خلالها منافسة المنتجات الأوروبية المماثلة عن طريق تصنيع كميات أكبر وبتكاليف أقل، أدى في نهاية المطاف إلى غزو المنتجات الأمريكية لأسواق الدول الأوروبية وزيادة العوائد والمكاسب الصافية للاقتصاد الأمريكي بنسبة فاقت 35 في المائة دون أن يتأثر مستوى التضخم الأمريكي المنخفض في ذلك الوقت.
في سياق خطابه الأسبوعي للشعب الأمريكي خلال عام 1928م، تفاخر الرئيس الأمريكي الجمهوري هيربرت هوفر Herbert Hoover بأن نجاح أمريكا اقتصادياً هو محصلة حتمية لانتصارها الكاسح في تحقيق مبدأ بناء الثروات المالية ودحر الفقر، الذي أطلق عليه فيما بعد مفهوم الرأسمالية Imperialism. فكان من نتائج تطبيق هذا المفهوم أن قفزت أسعار أسهم الشركات الأمريكية إلى أعلى مستوياتها خلال ستة أشهر مثل سهم شركة ويستنجهاوس Westinghouse الذي ارتفع من 91 إلى 313 دولارا، وسهم شركة أناكوندا للنحاس Anaconda Copper من 54 إلى 162 دولارا وسهم شركة يونيون كاربيد Union Carbide من 145 إلى 413 دولارا. كان استثمار مبلغ 15 ألف دولار في الأسهم الأمريكية حين ذلك يدر عوائد مالية صافية تفوق الثمانين ألف دولار سنوياً. لم يستغرق هذا النجاح الباهر طويلاً، فبعد أن وصل مؤشر الأسهم الأمريكية في الثالث من أيلول (سبتمبر) 1929م إلى أعلى مستوياته، جاءت كارثة "وول ستريت" Wall Street Crash ، حيث خسرت الأسهم الأمريكية 47 في المائة من قيمتها السوقية خلال خمسة أيام (24 - 29) تشرين الأول (أكتوبر) 1929م. وأدى ذلك إلى تسريح ملايين العاملين وإرغام كبار أغنياء أمريكا مثل المليونير فريد بيل Fred Bell على العمل في بيع الخضار والفاكهة في شوارع المدن الأمريكية للحصول على قوت عائلته اليومي.
كانت أوروبا خلال تلك الفترة (1920 ـ 1930م) تعيش على النقيض من الوضع الأمريكي. فلقد فاقت خسائرها البشرية والمالية خسائر أمريكا في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م) بمقتل عشرة ملايين أوروبي وإصابة 25 مليون جريح. وصلت خسائر أوروبا إلى 138 مليار دولار إضافة إلى تكبدها مليارات الدولارات من متطلبات إعادة إعمار ما أفسدته الحرب، تساوي في ذلك الوقت ستة أضعاف ديون جميع دول العالم المتراكمة خلال الفترة (1800 - 1914م)، بينما لم تتجاوز خسائر أمريكا المادية 22.5 مليار دولار، زاد من تفاقم الوضع الأوروبي نزوح العلماء والخبراء والمثقفين الأوروبيين وهجرتهم إلى أمريكا ما أدى إلى تآكل القدرات البشرية الأوروبية، كما نتج من سوء التغذية في ألمانيا والنمسا وفاة مليون طفل سنوياً، حيث كانت ألمانيا بمفردها تحتاج إلى معونة غذائية سنوية تعادل مئتي ألف طن من الحبوب و70 ألف طن من اللحوم ومئات الآلاف من أطنان الحليب.
قبل أسابيع معدودة من انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية تعهد مرشح الحزب الجمهوري هيربرت هوفر Herbert Hoover في خطابه الشهير أمام مرشحيه أنه لن يسمح للفقر بدخول بيوت الشعب الأمريكي في حال انتخابـه. إلا أن ذلك التعهـد لم يتحقق، فبعد أشهر من تعيينه الرئيس الواحد والثلاثـين في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1929م حدثـت كارثة "وول ستريت" Wall Street Crash التي قصمت ظهر سوق المال الأمريكي، ما أدى إلى إغلاق أبواب 100 ألف شركة وتقويض أصول أحد عشر ألف بنك وانخفاض نسبة طاقة إنتاج المصانع إلى 54 في المائة وتشريد 15 مليون عامل لتصل نسـبة البطالة بين الشعب الأمريكي إلى 30 في المائة. لم يستقر الوضع المؤسف لهذا الكساد الاقتصادي عند حدود أمريكا بل طال العالم بأسره في أوروبا وآسيا وأستراليا وجنوب أمريكا وإفريقيا، وتفاقمت حدة الفقر لتصل نسبتها من مجموع سكانها في الدول الصناعية إلى 40 في المائة والدول النامية إلى 60 في المائة. وانتشرت الأمراض في مختلف بقاع العالم من جراء نقص الدواء وضعف موارد الدول المالية، كان هذا الكساد الاقتصادي العالميThe Great Depression هو المشجع الأكبر والسبب الرئيس في بزوغ نجم الزعيم النازي أدولف هتلر Adolph Hitler، حيث لجأ حزبه النازي إلى معالجة الكساد في النمسا وألمانيا عن طريق اللجان الشعبية النازية وأوقفوا زحف الكساد في ألمانيا مطلع عام 1936م. أما في الدول الأخرى مثل أمريكا وأوروبا فلقد تألقت نجوم خبراء الاقتصاد في محاولة لدحر ظاهرة الكساد الاقتصادي بمضاعفة الرسوم الجمركية على الواردات من 26 في المائة إلى 50 في المائة. وصادق الرئيس الأمريكي هيربرت هوفر على مثل هذا التنظيم التجاري الخاطئ في عام 1932م، ليثير حفيظة الدول الأوروبية ما دفعها إلى معاملة الواردات الأمريكية بالمثل في عام 1933م، فنتج عن ذلك حرباً تجارية بين شاطئي المحيط الأطلسي أدت إلى انخفاض قيمة التبادل التجاري العالمي بين الدول الأمريكية والأوروبية بنسبة 30 في المائة، وأسهمت في تحويل دول التحالف العسكري إلى دول الانشقاق التجاري. سقط الرئيس الأمريكي الجمهوري الفاشل اقتصادياً في الانتخابات التالية لعام 1932م وفاز مرشح الحزب الديمقراطي فرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt الذي اشتهر بخطاب تنصيبه الرئيس الثاني والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية، حيث قال مهاتفاً جماهيره المحتفلة بانتخابه: "الشيء الوحيد الذي يجب أن نخاف منه هو الخوف ذاته". عكف الرئيس روزفلت في البيت الأبيض خلال مائة يوم من اعتلائه السلطـة على وضع خطة تنفيذية وحلول جذرية لإصلاح الوضع الاقتصـادي المتدهور، فكانت أهم إنجازاته قراره الشهير القاضي بإلغاء الحواجز الجمركية المفروضة على السلع الأوروبية)، وتخفيض الرسوم الجمركية بنسبة 50 في المائة على كافة السلـع الواردة إلى الأسواق الأمريكـية، وتطبيق مبدأ عدم التمييز في تعامل أمريكا تجارياً مع شركائها التجاريين وهو الذي عُرف فيما بعد في اتفاقيات منظمـة التجارة العالمـية بمبدأ حـق الدولة الأولى بالرعايـةMost Favored Nation Treatment.
في عام 1936م أعيد انتخاب الرئيس روزفلت لفترة رئاسية ثانية بأغلبية ساحقة قام خلالها بتحييد الولايات المتحدة الأمريكية وإبعادها عن الحروب الفتاكة وخاصة الحرب العالمية الثانية إلى أن اعتدى اليابان بطائراته الحربية وطواقمها من الانتحاريين Kamikazes بتاريـخ السابع من كانون الأول (ديسمبر) 1941م على ميناء بيرل هاربر Pearl Harbor الواقع في جزيرة هاواي الأمريكية بالتزامن مع إعلان ألمانيا الحرب على أمريكا في 11 كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه، فأرغم هذا كله الرئيس الأمريكي روزفلت على تجنيد شعب الولايات المتحدة وثرواتها لخوض حرب ضروس ضد ألمانيا وإيطاليا واليابان انتهت مرة أخرى بفوز ساحق للحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1945م وكلفت شعوب الأرض 100 مليون جريح وقتيل.

الأكثر قراءة