التويجري "شيخ الرمال السمر" .. أصالة أدبية ووقار في المسؤولية

التويجري "شيخ الرمال السمر" .. أصالة أدبية ووقار في المسؤولية

التويجري "شيخ الرمال السمر" .. أصالة أدبية ووقار في المسؤولية

( كثيراً ما مالت بي هواجسي ومعاناتي إلى العزلة، لكني أدركت أنه لا رفيق لي في عزلتي غير الجهل، والجهل هو مشكلتي مع نفسي لأني كلما قدرت أني اكتسبت شيئاً من المعرفة قالت لي الحياة ما أبعدك عنها.(
هكذا يقول عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري في كتابه (لسراة الليل هتف الصباح) وهو يعكس رغبة لا تنتهي في الاستزادة المستفيضة نحو اكتساب الثقافة وانتهال المعرفة والعلم، هذا السعي الدؤوب الذي استمر طيلة أيامه فلم يزده العمر إلا طموحاً ولم يزده الطموح إلا تواضعاً تجاه إدراك أسرار الكتابة الممتدة بامتداد الحياة، في أثناء رحلته تلك كان يترك محطات من الذكرى في قلوب أهل الثقافة والفكر الذين عرفوه إنساناً فمثقفاً ومن ثم رجل دولة وشخصية وطنية فذة.
هنا بعض شهاداتهم عن الفقيد ترافقها دعوات بالرحمة والمغفرة لهذا الرمز الذي ملأ القلوب أدباً وجمالاً ورسائل فكر مدرك مستنير.

يقول عنه الشاعر والأديب السوري سليمان العيسى: هذا العصامي الذي استطاع أن يبني من نفسه جسراً للثقافة والأصالة العربية، يمده بينه وبين العالم، عبد العزيز التويجري.
كأني أراه أمامي الآن يحملنا على جناحين من الحب والكرم إلى خيامه التي نصبها في أعماق البادية، بادية نجد وأشهد أني ما مررت في حياتي برحلة أمتع ولا أجمل من تلك الرحلة التي حملتنا إلى بادية نجد، قبل بضع سنوات كان ذلك بمناسبة مهرجان (الجنادرية) المعروف، وكنت أحد المدعوين إليه.
لقد اختار لنا شيخ الرمال السمر هذه الزيارة يومئذ ليردنا إلى جذورنا الأولى، إلى منابعنا العربية الرائعة في قلب نجد..
امرؤ القيس، عنترة، طَرَفة، النابغة، زهير، وكل الجميلات اللواتي فَجَّرت قصائد الحب والبطولة في صدورهم، ورقَرْقَتها على شفاههم، لا بد أن يكونوا جميعاً قد مروا هنا، وتحركوا هنا، وغنَّوا أجمل أشعارهم هنا.
ما أجمل أن ألتقي ذكرياتي القديمة، يربطني بها شيخ الرمال السمر، أن أشاهدها عياناً، أن أحسها تتحرك أمامي الآن!
كنت واحداً من القافلة الكبيرة من كتاب العرب وشعرائهم الذين استضافهم عبد العزيز التويجري في خيام عبلة وفارسها - والعبارة له -، كان شيخ البادية يحيطنا بكل ما يملك من الرعاية، والحب والأصالة .. وكنت أشعر أني أعيش التاريخ في كل لحظة، وأنا اجتاز رمالي السمر
أَطْلقْ صهيلَكَ.. هذا الرملُ والطَّلَلُ هذي جُذورُكَ في عينيكَ تشتعلُ
يا دارَ عبلةَ.. إني دَمْعةٌ طَفَرتْ ورحتُ في شهقةِ الصحراءِ أَرتحِلُ
وما تلبثُ الحافلة الأنيقةُ التي كانت تُقِلّنا، أن تحط بنا في رحاب مجموعة من الخيام، لا أجمل ولا أبهى منها؛ ونترجَّلُ، وأنا أتابع أبياتي التي بدأتها قبل قليل:
طفولتي في يدي.. أذرو براءتها على الطريق، فعمري مورقٌ خضِلُ
وتوقظُ الخيمةُ الزرقاءُ أُغْنِيَتي فاللحنُ بيني وبين الدهرِ مُتَّصِلُ
وعلى باب الخيمة الزرقاء الواسعة، يقف العصامي الجليل، شيخ الرمال السمر، عبد العزيز التويجري ليستقبلنا ويصافحنا واحداً واحداً، ويلتقط الصور التذكارية معنا. وكنت أحد الذين شد على يدهم بقوة، مرحِّباً بشاعر النضال العربي، كما آثر أن يسميني، ولم يتركني أغيب عن رعايته لحظةً في تلك الزيارة كلها .
لكم وددت أن أحمل إلى هذا العصامي الكبير باقة من ياسمين دمشق أطوق بها عنقه، وأخرى من (عرار نجد) ألقيها بين يديه.
لقد تعودت بوادينا أن تُنبتَ الرجال على مر الزمن وأشهد أنه كان واحداً من هؤلاء الرجال الذين انبتتهم أرضنا السخية.

في حين يتذكره الأديب عبد العزيز المقالح مشيراً إلى بعض مؤلفاته، فيقول: سأكتفي - بداية بإشارة غير وافية إلى أن السلطة - وقد كان الشيخ عبدالعزيز، عندما كتب رسائله إلى ولده واحداً من أعمدتها - لن تستطيع مهما اشتد سلطانها وتكاثرت مشاغلها أن تسلب المبدع الحقيقي موهبته أو تسحبه في إطارها أو تبعده عن شغفه الأصيل إلى المعرفة والاقتراب الحميم من عوالم الإبداع. يحدث هذا في عالم اليوم كما كان يحدث في عالم الأمس عندما كان المبدع ينتزع نفسه من مسؤولياته اليومية ويرجع إلى ذاته ليحررها من ضغوطها، وينتزع هذا الشيخ الذي تفتح وعيه على ثقافة أمته، القديم منها والحديث، الشعري والنثري، السياسي والفكري، وكان حريصاً على أن يتزود منها بنصيب وافر.
الشيخ عبدالعزيز التويجري، واحد من الذين تتغلب مواهبهم وحبهم للأدب على إغراء السلطة وما تفيض به على أصحابها من شهرة ومجد تجعلهم في غير حاجة إلى البحث عن مجال آخر للشهرة والمجد، وبذلك استطاع هذا الشيخ المثقف الجاد أن يختزل أفكاره ورؤاه في كتاباته التي تعد إضافة حقيقية إلى ما قدمته الجزيرة العربية في القرن العشرين من طلائع كتابات أدبية وفكرية حين نجح في أن يقتطع من وقته المزدحم بالمسؤوليات وقتاً للقراءة وآخر للكتابة الفكرية الراقية. وفي مقدور القارئ العادي ناهيك عن القارئ المتابع والناقد المتخصص أن يدرك أهمية الآثار الأدبية والفكرية التي أنتجها هذا المسؤول المبدع رغم شواغله وهمومه ومسؤولياته الجمة. وفي مقدمتها كتابان على درجة من الأهمية هما: (في أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء) وهو كتاب عاشق مفتون بأبي الطيب الذي استرجعناه في عصرنا الراهن بعد أن أدهشنا وهو يختزل أحزاننا ويعبر عنها بوضوح لا نكاد نجده في إبداع معاصرينا. أما الكتاب الآخر فهو (رسائل إلى ولدي.. حتى لا يصيبنا الدوار). وبما أن الكتاب الأول قد نال من الاهتمام في حدود ما قرأته بعض ما يستحقه، فإن الكتاب الأخير هو ما استثار اهتمامي ووجدتني مشدوداً إلى الحديث عنه.
لقد أثبتت هذه النصوص والرسائل أن صاحبها وهو الشيخ عبد العزيز التويجري، واحد من المثقفين العرب الذين يؤرقهم واقع الأمة، وأن ذلك الكتاب لم يكن مجرد رسائل شخصية من أب إلى ولده، بل كان خلاصة تفكير عميق مع النفس في تمردها وقلقها، وصدى لحوار ساخن مع العصر وتداعياته تلك التي وضعت الإنسان - العربي بخاصة - بين ضفتي نهر اليأس والأمل.

الدكتور عبد الملك مرتاض بدوره يسجل شهادته في الفقيد الراحل فيقول:
وجهٌ مشرقٌ من وجوه الثقافة العربيّة السعوديّة المشرقة، وملمَح ناضرٌ من ملامح الفكر العربيّ السعوديّ النّاضر، وشخصيّة اجتماعيّة وسياسيّة من الشخصيّات العربيّة الْمُؤْتَلِقة.. ذلكمْ هو الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، فهو سخيّ كريم إن عَدَدْت الكرماءَ الأسخياء، وهو نبيل نبيه إن عددتَ النُّبلاء النُّبهاء. ليس عبد العزيز التويجريّ رجلَ فكْر وأدب وحسب، ولكنّه رجل يجمع بين خِلالٍ شريفة كثيرة؛ ذلك أنّك إذا عددتَ الأسخياءَ ألفيتَه أحدَ أسخيائهم، وإن عددتَ النّبهاءَ وجدته أحدَ نُبَهائهم، وإن أنت عددتَ الشِّهامَ لم تعدَم له مكانة بين شِهامهم، وإن أنت الْتمستَه في طبقة القادة المحنّكين ألفيتَه رجلَ قِيَادة وسياسة بامتياز. وقلَّ من النّاس من يستطيع أن يجمع بين الثراء والمال، والفكر والسياسة، والعلم واللباقة، وعبد العزيز التويجريّ أحد أعضائهم.
لم يكن رجل دولة وثقافة وعلم فقط، ولكنّي أكلت ملحه، وتحرَّمتُ بطعامه، وتشرّفت بازْدِيَارِ بيته.. وقد امتلأتُ إعجاباً بهذه الشخصيّة، واستوْقَرَ قلبي حباً لها، وتقديراً إيّاها.
لم يكن غريباً على الثقافة ولا الثقافة كانت غريبة عليه، فكلّ مَن شهِد الجنادريّة من المثقفين والمفكّرين والأدباء العرب - وما أكثرَ منهم مَن شاهَدوها- يُقرّون له بذلك، فقد فتح لهم داره، وحاورهم واحداً واحداً في منزله باهتمام مدهش. هناك من محبي الثقافة مَن يكون مفكّراً ومبدعاً، وتسمح له مهامُّه، في الوقت نفسه، أو قلْ يقسو على نفسه لانتزاع ساعات الراحة منها للنّهوض بعمل ثقافيّ متميّز خارج إطار المهمّة الرسميّة الثقيلة التي يضطلع بها في الدولة، فتراه يجرّب في الكتابة، ويُدْلِي بدَلْوه في قضاياها، والشيخ عبد العزيز التويجريّ أحدُ هؤلاء بائْتِلاقٍ. والآية على ذلك أنّه ألّف أربعةَ عشرَ كتاباً في مجالات المعرفة والفكر والأدب والتاريخ.
قد يكون الشيخ عبد العزيز التويجريّ، بذلك، أحَدَ أسبقِ المثقّفين السعوديين المعاصرين إلى اتّخاذ التأمّل والحوار وسيلةً فكريّة للبحث عن الحقيقة، والسّعي إلى إدراكها.

يتذكره كذلك صديقه الأديب والكاتب رجاء النقاش متناولاً ما عرفت به كتاباته من سمات فنية مميزة، حيث يقول:
عرف النثر العربي الحديث ما يمكن أن نسميه باسم (النثر الغنائي) وهو النثر الذي ينبت كالأزهار في تربة شعرية كاملة، وإن لم يتقيد بقواعد فن الشعر الصارمة، وهذا النثر الغنائي ينطلق في التعبير عن النفس والمشاعر الإنسانية المختلفة محتفظاً بروح الشعر دون الحرص على مظاهره الخارجية، ومن بين أعلام مدرسة (النثر الغنائي) هذه تظهر أمامنا شخصية الشيخ عبد العزيز التويجري في معظم كتاباته ومنها:
(في أثر المتنبي) و (منازل الأحلام الجميلة)، و(حتى لا يصيبنا الدوار) و (حاطب ليل ضجر) ثم في كتابه التاريخي عن الملك عبد العزيز، فالتويجري المؤرخ بقي شاعرا وهو يستعرض أحداث التاريخ الكبيرة ويضعها في ميزان حساس من التحاليل والدقة العلمية.
الشيخ عبد العزيز التويجري شاعر في نثره كله، وإن كان قد تحرر من مظاهر الشعر الخارجية وأبقى في كتابته على جوهر الروح الشعرية العذبة المليئة بالموسيقى الداخلية، ولست أدرى إن كان عبد العزيز التويجري قد كتب الشعر في بداية حياته، أنه لم يكتب الشعر على الإطلاق ولكن الذي لا شك فيه أن كتابته لا تخرج عن هذا الفن الجميل الذي أحب أن أسميه باسم (النثر الغنائي) الذي هو شيء آخر غير النثر العادي وغير الشعر المعروف بقواعده القديمة أو الحديثة.
ومنذ الصفحات الأولى في أي كتاب للتويجري نحس على الفور بتلك النشوة التي يثيرها الفن في النفس، ونحن نحس بهذه النشوة حتى قبل أن نتعرف على الأفكار التي يعبر عنها التويجري ويعرضها أمامنا ويتناولها بالبحث والتحليل ويتخذ منها موقفا خاصا مستقلاً، ومصدر هذه النشوة التي نحس بها مع كتابات التويجري هو هذه الروح الغنائية التي تسيطر على ألفاظه وعبارته وصوره المختلفة، وهي روح غنائية سهلة منطلقة بعيدة كل البعد عن الافتعال والتصنع مما يجعلها قريبة إلى النفس، قادرة على تحريك المشاعر الإنسانية وخلق عالم كامل من المشاركة الوجدانية الصادقة بين الكلمة المكتوبة والقلب الذي يقرأها.. فلا يمكن قراءة التويجري إلا بالقلب الصافي المتفتح لجمال الفن والحياة.
وهذه الأصالة الصحراوية عند عبد العزيز التويجري هي منبع عميق من منابع (النثر الغنائي) فالتويجري مشدود بمشاعره دائماً إلى ذلك العالم القديم الذي نشأ فيه يحس نحوه بالشوق والحنين،
ويحمل في قلبه عشقاً كبيراً لما كان يمتلئ به هذا العالم من بساطة ووضوح ونقاء، وما كان يمنحه للإنسان من صحة روحية وجسدية، وما كان يوفره من هواء نقي ومساحات شاسعة يتحرك فيها الناس بغير زحام أو ضوضاء، وما كان يتوافر في هذا العالم من وحدة بين الإنسان وكائنات الله الأخرى من أشجار ونباتات وخيل وجمال وطيور وغزلان، وكل هذه العصور التي انطبعت في نفس التويجري من حياته الأولى كانت عزيزة عليه، فتسللت إلى كتاباته في يسر وسهولة، ومنحتها الكثير من روح الشعر والغناء.
لو كان عبد العزيز التويجري من هؤلاء الذين يخجلون من حياتهم الأولى ويرفضونها ويحسون بأنها عبء ينبغي أن يتخلصوا منه، لأصبحت كتاباته خالية من هذا الحنين العجيب الذي تمتلئ به، وأصبحت باردة وجافة وتحولت إلى نوع من الفكر المجرد الذي لا تجري في عروقه دماء الحياة. ولقد كان هذا الحنين إلى الماضي والإخلاص له والاعتزاز النفسي به هو الذي أعطى لكتابات طه حسين ما فيها من شاعرية وغنائية فطه حسين لم ينس أبدا أنه نشأ في الصعيد بكل ما فيه من جمال وخيالات، وبكل ما فيه من عذاب وآلام، ولم ينس طه حسين أبداً حياته الأولى في الأزهر، حيث ربطته هذه الحياة بتراثه وأصالته، وعندما ذهب إلى باريس واندمج في حضارة العصر الحديث وثقافته، لم يفقد حنينه إلى ماضيه. والموقف عند التويجري وطه حسين متشابه، وإن اختلفت الأفكار وطريقة التعبير، ولكن المنبع الأساسي واحد وهو الاعتزاز بأصالة الإنسان وجذوره وعدم الهروب من ماضيه ومعاملة هذا الماضي بمحبة وحنان وشجاعة روحية لا تخشى مواجهة العالم بشخصية الإنسان الحقيقية وغير المفتعلة.

إن التويجري يقدم لنا في كتاباته نموذجا حيا للنثر الغنائي الذي ينبع من الأصالة العربية الحقيقية والحنين الدائم إليها، وإلى ما فيها من صور وخبرات ونضارة وبساطة ووضوح، وهي في الوقت نفسه أصالة متطلعة إلى الحركة والحياة، ولا ترضى أبدا بالتوقف والجمود، ولا تعترف بالمسافة القائمة الآن بين الإنسان العربي والعصر الحالي الذي يعيش فيه بعد أن دفعته عوامل متعددة إلى أن يبتعد عن الصفوف الأمامية، ويتخلف عن المشاركة الفاعلة المؤثرة في تحديد مصير الإنسان على هذه الأرض.
وبالإمكان أن نأخذ أي صفحة من كتابات التويجري فترى فيها هذه الخصائص واضحة بينة، وهي خصائص نلخصها جميعا في عبارة (النثر الغنائي) أي النثر المشحون بالعاطفة والإحساس الحاد بالناس والأشياء والمواقف فالألفاظ هنا نقية ناصعة، والعبارات حية نابضة، والإيقاع مسموع بالأذن والقلب معا، والاتصال بالينابيع الأولى للروح العربية يملأ الكلمات والعبارات والصفحات المختلفة،

وتفيض كذلك ذاكرة شيخ الروائيين الأديب إبراهيم الناصر الحميدان ببعض الذكريات عن الراحل الكبير فيقول:
كلما وردت أسماء الرعيل الأول من الأدباء والمفكرين تذكر المواطنون مبدعاً مشهوراً هو الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري الذي أسس بتوجيه من مقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز منتدى الجنادرية للثقافة والتراث الذي أصبح رمزاً لتأصيل الفكر السعودي ورمزاً لاسترجاع ما للتراث من أصالة ومكانة في الأدب السعودي الحديث.
وعلى رغم ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقه في متابعة تطوير الأنظمة وما يتطلبه ذلك العمل من اجتماعات ونقاشات مع القيادات، فقد استطاع اقتطاع قليل من الوقت للمتابعة الثقافية في تكوين رؤية لما يحدث في العالم من تطورات فكرية والإسهام في العطاء الذاتي لما يجري ويستحق الإضافة عن طريق التأمل والتأليف.. وهذه الإضافة الثقافية من العطاء تدل على فكر ثاقب ورؤية متطورة تستجيب لما ينشده الفكر من تطوير لزيادة الاستيعاب والإسهام فيما يتعلق بالتحديث والاستزادة والإضافة ولاسيما ما يتعلق بالعمل الفكري والنظرة الفلسفية للواقع المعاش، وهي عطاءات ذات مفعول فكري ينشد التجذر في التراث الإنساني؛ ما يعني الإسهام الظامئ للبحث عن الانطباع الصريح.. وها هو أستاذ كبير هو الدكتور نجيب زكي محمود في مقدمة كتاب (حاطب ليل ضجر) يعطي هذا الانطباع قائلاً: لم أكد أقرأ من هذا الكتاب فاتحته حتى أحسست وكأني خطوت بقدمي في عالم مسحور يستضيء بضوء القمر الحالم الذي يشيع أمام البصر ما يشبه أن يكون أحلام الحالمين؛ إذ أحسست كأن الذي أمامي ليس كلمات مسودة وإنما هو ضروب من الحنين الخائف، ومن القلق المتأرق ومن الطموح المتوثب، إنها كلمات من قلب صادق يجسد تأثير القليل مما قرأ.
من مؤلفاته القيمة كتاب (ذكريات وأحاسيس نامت على عضد الزمن)، وهو بحق سفر نفيس لا يستغني عن قراءته كل مثقف متابع للحركة الفكرية في بلادنا لما تضمنته من أفكار ورؤى حرية بالمناقشة حتى وإن اختلفنا مع بعض معطياته إلا أنها تبقى اجتهادات لا غنى عن تأملها. ولعل رؤية الناشر لها أهمية، حيث ذكر فيها: (من يشارك في مجلس الشيخ عبد العزيز التويجري في الرياض أو خلال الزيارات الموسمية له إلى بريطانيا وفرنسا وسويسرا يتمنى لو أن الرجل الظاهرة يسجل ما يقوله على الورق كتاباً يقرؤه الناس على مختلف أجيالهم، ومن يقرأ كتاباً ألفه الشيخ عبد العزيز يتطلع إلى كتاب آخر يؤلفه لما له من عمق في التأمل واستحضار دائم للتاريخ في زمن الكتابة عن أحوال الحاضر ووجع متواصل في الوجدان يلمسه قارئ كتاباته وبالذات من كانت نفسه متعبة وروحه مرهقة(.
وعلى النحو الذي تتفجر فيه المياه فجأة من أرض في صحراء وتتحول هذه إلى واحة، فإن الشيخ عبد العزيز تفجرت الرغبة في الكتابة عنده بعدما كان قد أمضى أكثر من نصف قرن في الوظيفة قريباً من ملوك الجزيرة العربية بدءاً من المغفور له الملك عبد العزيز وشاهداً على المملكة العربية السعودية ومراحل انتقالها وتطورها.

الدكتور محمد جابر الأنصاري يتناول دراسة الأديب الراحل عن الشاعر العربي الأشهر المتنبي فيلمس تمازجا أدبيا وفنيا نادراً بينهما، ويقول:
عندما جاء صوت عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري من قلب الجزيرة العربية مكتملاً ناضجاً، تساءل الكثيرون: أين كان هذا القلم من قبل؟ ولماذا لم نسمع به؟!
سؤال يعبر - للأسف - عن جهل الكثيرين من المثقفين العرب بحقيقة المعاناة التي مر بها جيل التويجري في زمنه.
وحدهم من أرخوا لحياة الكلمة في هذه المنطقة وعاشوها، يدركون ببساطة سبب ذلك الصمت الذي سبق الانبثاق المكتمل.
لم يكن صمتاً.. كان كلاماً هامساً مع النفس ومع التراث ومع الأهل والوطن لم يجد له منبراً للظهور ولا مجالاً للنشر..
أعرف من دراسات باكرة الكثيرين من رجال الكلمة في البحرين والكويت الذين أحرقوا أو أغرقوا كتبهم المخطوطة خلال النصف الأول من القرن العشرين (من صقر الشبيب إلى عبد الله الزايد).
ومن حسن الحظ، أن أبا عبد المحسن كان من الصبر بحيث احتفظت ذاكرته بأكثر ما لديه إلى وقت نشره في الثمانينيات من القرن الماضي، ويضيف الأنصاري (ما دعا التويجري إلى رحاب المتنبي هو هذه الحكمة الاختبارية الحياتية أيضاً، بالمعنى الشخصي وبالمعنى التاريخي والقومي العام، فكم مرت على العرب من دروس وضربات وتجارب بعد المتنبي للحياة العربية في عصره، لنرى مدى صدقها وانطباقها على السلوك العربي والمصير العربي في يومنا هذا وأيامنا المقبلة.. ونرى أخطاءها وهي تتكرر وكأنها القضاء والقدر لا نملك لهما رداً..!
ولكن قبل القيام بهذه المقارنة الخطرة التي أقدم عليها عبد العزيز التويجري بين نبوءات المتنبي وعوائد العرب لا بد أن نبدأ بلقائهما الأول.. أعني اللقاء الأول بين المتنبي والمقتفي أثره على درب المعاناة العربية.. لنرى طبيعة نهج التويجري في كتابه هذا، ونرى إلى أي مدى لا يزال أبو الطيب حياً حاضراً معاشاً في البوادي العربية، أكثر من حضوره في أي كتاب ومكتبة وجامعة.
لقد تمازج لنا في صفحة واحدة مداد المتنبي بمداد التويجري، واختلط لنا في كأس واحدة شراب المتنبي بنكهة التويجري ومذاقه.. ولكن بقي العنصران متمايزين وإن اختلطا وتمازجا.. وبقي للتويجري لونه في حنايا الكأس.. وهو لون يعكس أشياء تزيد في قسوتها ومرارتها عن كل ما قاله المتنبي، ربما لأن زمننا العربي أقسى من كل ما عرفه المتنبي رغم قسوته.
ولعل ما يميز هذا الصوت الجديد، أنه صوت قادم من عمق الجزيرة العربية، معتق في بواديها، لم يخرج كصوت المتنبي إلى الشام والعراق ومصر.. بل إنه مستطيب الإقامة فيها يسراً أو عسراً.. وأن طوّف فكرا ونظرا بتجارب العرب وتجارب العالم.
وهكذا تواصلت رحلة الكلمة مع عطاءات التويجري وصولاً إلى كتابه الموثق في سيرة الملك الموحد عبد العزيز آل سعود، الموسوم: (عند الصباح يحمد القوم السرى)... ربما يتعدى صناعة الشعر إلى صنع التاريخ .

الأكثر قراءة