«في الغابة» .. لا مكان للعشق في الألفية الجديدة
أن يهفو قلب شابة بريئة عاشت حياة مدقعة كسندريلا للأمير الوسيم يبدو أمراً بديهياً، بالأخص لمن تتبع تلك الحكايا الأسطورية أو شهد الرسوم المتحركة الكلاسيكية لديزني، بالأخص في فترة الثمانينيات. لكن أن تسمع سندريلا ترفض الأمير قلباً وقالباً، وحين تقتنع به بعد تشكك تكتشف أنه لعوب يتسلل إلى الغابة لاصطياد فرائسه يعد صادماً. كتلك العبارة التي يتفوّه بها بلا اكتراث: "نشأت على أن أكون جذّاباً، وليس مخلصاً". وكأن ذلك هو الغرض من فيلم ديزني الجديد: "في الغابة".
فيلم موسيقي خيالي لديزني، من إخراج روب مارشال في ديسمبر 2014. بتصوير سينمائي خلاّب مقتبس من أداء مسرحية برودواي الموسيقية الشهيرة بذات العنوان "في الغابة" لعام 1986 لستيفن سونديم. يعدّ الفيلم امتداداً لنسق ديزني الجديد بعد الألفين، حيث لم يعد هناك أثر لتلك الشخصيات الخيالية الحالمة. لا سحر في العصر الحديث، مجرّد نظرة واقعية تقتل ذلك الانبهار المعتاد بالأمير الجذّاب.
يستهل الفيلم بمقطع غنائي بديع يجمع عدداً من الشخصيات الخيالية التي حوتها الحبكة كسندريلا، والخبّاز وزوجته، والصبي جاك. يحلم كل منهم بتحقيق مبتغاه وإن كان بسيطاً. ويمتد الفيلم ليعكس كل الطرق المتخذة في سبيل تحقيق أمانيهم، وأهمها قصة الخباز وزوجته وما عليهما تنفيذه حسب أوامر الساحرة لتزيل عنهما لعنة أبدية تمنعانهما من الإنجاب. يتوجهان نحو الغاب سعياً في جلب متطلباتها، بقرة ناصعة البياض ورداء أحمر وخصلة شقراء وحذاء ذهبي. تتلاقى جميع الشخصيات في الغابة التي تنفرد بالبطولة الرئيسية حيث تبرز الرغبات الدفينة، وتتسبب الحيرة والضعف في ظهور جوانب نفسية لم تظهر من قبل. فحتى الخباز يظهر ثقة أكبر وجرأة تتعجب منها زوجه التي تتساءل: "لقد تغيرت، أصبحت مختلفاً في الغابة".
التصوير السينمائي يعكس الميزانية الضخمة التي تكفلت بها الشركة المنتجة ديزني فعكفت على تدفق الأزياء الأنيقة، وإنشاء محيط خلاب بجو سرمدي يكتنفه الضباب، وأجواء قاتمة تعكس تلك الأفكار والأحاسيس المكبوتة في الأعماق. الأداء الموسيقي يزيد من قوة حضور ممثلين بارزين كميريل ستريب القادرة على تقمّص أي دور حتى تصديقه، عن دور الساحرة ذات الشعر المنتفش والوجه الحافل بالتجاعيد والأصابع المرصّعة بالأظافر الطويلة المصفرّة.
#2#
تظهر ميريل جانباً أنثوياً مثخناً بالبحث عن الشباب والمظهر الحسن، والإحساس بالأمومة تجاه ريبنزل ما دفعها إلى إجبارها على اعتلاء برج عاجي لحمايتها من العالم الخارجي. يظهر الممثل جوني ديب في مشهد مختصر مؤثر كذئب يحاول إغواء ذات الرداء الأحمر بطرق تشكك المشاهد بأنها جسدية، إذ يبتلعها الذئب فتصيح بأنها شاهدت عوالم لم تكتشفها من قبل. تتلاشى الفروقات بين الشخصيات المغمورة بملامح الشر وشخصيات أسطورية يتوقع أن تكون مشبعة بالمثالية كالأمير وزوجة الخباز، فهم جميعاً مجرد بشر بأحاسيس وغرائز تبحث عن التلبية في ظل حياة قاتمة التفاصيل.
لا يتوقع أن يتم لي تفاصيل تلك الحكايا الأسطورية بذلك الشكل، لكنه ما يكسب المشاهد متعة أعمق. فزوجة الخبّاز التي برعت في دورها الشابة إيميلي بنت تمل من دور الزوجة التقليدية وتسقط في براثن إغواء الأمير فتغمغم: "أنا في القصّة الخاطئة". وتحسد سندريلا وتخبرها بتمنيها الاقتراب من عاشقها. وإن كان التعرف عليه عن كثب يفضي إلى التعرف على شخصية سطحية يرتع بانبهار الآخرين به ويتسلل إلى الغابة للتمتع بالنساء الحالمات بقضاء ليلة ساحرة.
يرتع الفيلم بلقطات موسيقية درامية مثيرة للضحك تصل إلى أوجها لدى الأداء الموسيقي لـ "عذاب"، حيث يقف أمير سندريلا وأمير ريبنزل بين ثنايا شلال متدفق ليتناجيا عن عذابات العشق وعدم القدرة على الحصول على المحبوبة، بأسلوب كوميدي يسخر من الغرور والثقة، ويقتل تلك النظرة التقليدية الإيجابية للأمير الساحر. في مقطع يغمر الشابين بسذاجة ناتجة عن عنجهية، ليتساءل أحدهما وهو يصدح بالغناء بسذاجة: لماذا تهرب مني؟ فأنا حساس، ذكي، خلوق ومرهف وعاطفي جذّاب كما أنني وسيم وولي عهد. ثم يعترف الشابان بأن العذاب يتفاقم حين يكون الأمر الوحيد الذي ترغب فيه، هو الوحيد الذي لا تتمكن من الحصول عليه. لا تتوقف المعاناة بعد حصول كل شخصية على مبتغاها. فبعد إقناع سندريلا بالقبول بالأمير الوسيم، لا تعيش معه حياة سعيدة، وتقرر هجره بسبب طبعه المغاير للوفاء. في الحين الذي تحصل فيه زوجة الخباز على طفل، ومن ثم يغريها الأمير للاستفاقة من حياتها الاعتيادية والغوص في روح المغامرة دون تفكير. تتعاقب نواتج وخيمة تتسبب في زلازل بل ومقتل بضع شخصيات.
"في الغابة"، هو فيلم حافل بالسوداوية يحفر في الحكايا الأسطورية فيحورها إلى واقع عصري ليفيق المرء من أحلامه. إذ لا مكان لقصص العشق الواهية في الألفية الجديدة.
*كاتبة وروائية سعودية