تغيرات في الخريطة الاستثمارية الخليجية
هنا في منطقة الخليج العربي أصبحت تتوافر لدى دول المنطقة خيارات متعددة غير متوافرة حتى لأوروبا نفسها, فدول الخليج العربية بوسعها أن تختار ما بين أن تربط مسيرتها النقدية إما بالغرب وإما أن تتجه شرقا نحو القارة الآسيوية التي تتمتع حاليا بمرحلة مزدهرة من النمو. ويعتبر توجه دول الخليج بقوة نحو آسيا استعادة لعلاقات تجارية تاريخية قبل بزوغ حقبة القوى الأوروبية الغربية. وعلى عكس الحال في الخليج تبدو الأمور في أوروبا, فمن المعروف أنه كلما تسارع نضوب النفط الأوروبي ازداد اعتماد القارة العجوز على دول الخليج لتغطية احتياجاتها من النفط والغاز.
ومما لا شك فيه أن العامل الرئيس وراء هذا التطور هو حاجة الاقتصادات الآسيوية للطاقة وأيضا حاجتها الماسة لرؤوس الأموال اللازمة لتحديث هذه الاقتصادات. وقد عجل بهذه العملية فشل الولايات المتحدة في العراق وفي مواجهة إيران التي لم تتمكن الولايات المتحدة من وضع حد لبرنامجها النووي, في الوقت الذي ليس لدى الصين والهند أية مصلحة في فرض العزلة على إيران. بل إن مستقبلهما يعتمد بقوة على نفط وغاز إيران. كما أن القوة العسكرية المفرطة ليست ضمانة للهيمنة الاقتصادية. ومع أنه ليس في الأفق ثمة بديل عن العسكرية الأمريكية في الخليج إلا أن بديلا قد أتيح في هذه الأثناء عن الارتباط الاقتصادي أحادي الجانب بالغرب.
في خمس دول خليجية فقط يوجد ثلثا احتياطيات النفط المؤكدة, مع أن مجمل إنتاجها من النفط حاليا لا يزيد على 30 في المائة من الإنتاج العالمي. أما بالنسبة للغاز فتبدو هذه العلاقة أكثر وضوحا ففي الوقت الذي تملك فيه هذه الدول 40 في المائة من احتياطيات الغاز في العالم, فإنها لا تسهم إلا بنحو 10 في المائة من الإنتاج العالمي الفعلي. ومن البديهي أن تزداد أهمية نفط وغاز الدول الخليجية كلما بدأت المصادر الأخرى في النفاد, ازداد الطلب على النفط. ويذكر في هذا السياق أن الطلب حاليا يبلغ 82 مليون برميل في اليوم ومن المتوقع أن يصل عام 2030 إلى أكثر من 120 مليون برميل. فالصين وحدها يزداد استهلاكها اليومي من النفط بمعدل مليون برميل في كل سنة. وفي الوقت نفسه ستصبح بريطانيا ابتداء من عام 2010 مستوردا صافيا للنفط. وبعد ذلك بعشر سنوات ستكون بريطانيا مضطرة لاستيراد 90 في المائة من حاجتها من النفط.
لقد أصبحت الأيام معدودة التي ستضطر أوروبا بعدها لاستيراد 22 في المائة من حاجتها للطاقة بصورة مستمرة من دول الخليج. ومع ذلك فلا يزال ينقص أوروبا الإحساس بأن سياسة الطاقة بأبعادها الجيوسياسية ينبغي أن تكون جزءا مركزيا من سياستها الخارجية والأمنية. أما إذا أرادت أوروبا أن تزيد من اعتمادها على دول الخليج للمحافظة على المستويات المعيشية فيها, فسيكون عليها أن تدخل في منافسة مع الاقتصادات الآسيوية سريعة النمو التي تزيد من حصتها من نفط الخليج باستمرار. إذ لا بد من الإشارة إلى أن حصة آسيا من صادرات منطقة الخليج قد ازدادت خلال الفترة ما بين 1980 و2005 من 12 في المائة إلى 30 في المائة. وبموازاة ذلك تراجعت حصة الاتحاد الأوروبي من 40 إلى 19 في المائة. وبالنمط نفسه تتغير أيضا مستوردات منطقة الخليج.
وليس ثمة من دلائل تشير إلى أن هذه الديناميكية يمكن أن تتغير. ففي الوقت الذي تتفاوض فيه دول الاتحاد الأوروبي منذ 17 سنة على معاهدة للتجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الخليجي الست, قامت هذه بسرعة أكبر في عقد مثل هذه المعاهدات مع الهند والصين واليابان. وبسبب حاجتها الماسة لنفط الخليج, لم تحاول هذه الدول ربط المفاوضات بموضوعات مثل الديمقراطية ونزع السلاح. فعندما قام الرئيس الصيني هو جنتاو العام الماضي بزيارة المملكة العربية السعودية لأول مرة لم يجابه بأسئلة حول سجل الصين في مجال حقوق الإنسان كما يفعل الغرب وإنما وجد كل الاحترام وقابله أعضاء مجلس الشورى بعاصفة من التصفيق, وفي السنة نفسها توجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز لزيارة الهند وباكستان إضافة إلى الصين. وفي كل مكان كان الملك السعودي يوقع الاتفاقيات حول العمل الاقتصادي المشترك الطويل المدى.
إن الاقتصادات الآسيوية السريعة النمو بحاجة لرؤوس أموال كثيرة, مصدرها بصورة متزايدة منطقة الخليج أيضا. ويقدر الخبراء أن المستثمرين من دول الخليج قد استثمروا في آسيا حتى الآن نحو 15 مليار دولار. وقد يرتفع هذا المبلغ إلى 300 مليار دولار مع حلول عام 2020. إن السيولة متوافرة, حيث إن فائض ميزان الحساب الجاري للدول الخليجية الست بلغ 230 مليار دولار. ويبدو أن المنحنى سيبقى في اتجاه صاعد.
من الواضح أن حالة من التوافق قائمة بين الطرفين : فدول الخليج تؤمن للمدى الطويل حاجة آسيا إلى الطاقة, وبالمقابل يقوم المستثمرون الخليجيون بالمساعدة على تطوير الصناعات الثقيلة للاقتصادات الآسيوية السريعة النمو التي ستكون بحاجة لكميات إضافية من النفط والغاز من منطقة الخليج. أما المستثمرون فهم من العربية السعودية والكويت وأبو ظبي ودبي. وهم يقومون بالاستثمار في الصين والهند وباكستان وماليزيا وسنغافورة في مصافي النفط العملاقة ومصانع البتروكيماويات ومصانع الحديد والصلب وفي محطات توليد الطاقة.
إن مبالغ طائلة يجري استثمارها في بناء صناعات متطورة مثل الاتصالات وبشكل خاص في إنشاء شبكات الهاتف الجوال. هذا وقد اكتشف المستثمرون من الخليج أخيرا الأسواق العقارية الآسيوية. فرأس المال الخليجي يساهم حاليا في بناء الفنادق, والعمارات المكتبية, والمشاريع السكنية وبالطبع فإن شركة " عالم دبي " تسعى لتملك موانئ جديدة في البلدان الآسيوية, وتسعى منطقة جبل علي الحرة المزدهرة في دبي لإدارة مناطق حرة مشابهة في آسيا. وفي الوقت نفسه لا تمنح دبي رخصا للاستثمار لأي دولة بقدر ما تمنحه للهند. وفي دبي أيضا يوجد "دراجون مول" حيث يقوم 4500 من الموردين الصينيين بتوفير السلع التي تحتاج إليها المنطقة. ومن المتوقع في خطوة مقبلة أن يقوم المستثمرون الخليجيون باستثمار رؤوس أموالهم في البورصات الصينية وفي بورصات البلدان الآسيوية الأخرى.
هذا ومن الجدير بالقول أن صفقات الطاقة والصفقات التجارية من منطقة الخليج وإليها قد تغيرت بصورة جذرية خلال عدد محدود من السنوات. وتسير التدفقات الرأسمالية كذلك في الاتجاه نفسه. وعلى أوروبا، من أجل مستقبلها، ألا تبقى متفرجة ومكتوفة الأيدي بعد الآن.