اعترافات محلل!

اعترافات محلل!

اشتملت قائمة أفضل الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة الأمريكية العام الماضي على كتاب لأحد أشهر محللي بورصة نيويورك Dan Reingold، قدم فيه اعترافاته ومشاهداته الواقعية حول ما يدور خلف كواليس البورصة. ترجمة عنوان الكتاب "اعترافات محلل من وول ستريت". كما يبدو، فإن المؤلف لم يهدف لأن يكون "حكواتياً" لحقبة مهمة في السوق المالية الأمريكية بل كان واقعياً. ولإثبات مصداقيته فقد وثق جميع قصصه، كما استعان (كما أشار في المقدمة) بعدد من المحامين لضمان موثوقية تلك القصص ولتجنب أي تبعات قانونية. وقد حاول إبراز أنه لا يهدف إلى الربح من كتابه (على الأقل في الأجل القصير)، حيث خصص نصيبه من إيرادات الكتاب لصالح جمعيات خيرية. وفي كل الأحوال فإن السيد Reingold كان في الأصل علماً بالنسبة لكل من له علاقة ببورصة نيويورك. بطبيعة الحال، فإن هذه المقدمة ليست لتمجيد الكاتب بقدر ما هي لإبراز أهمية الكتاب وما يحمله من دروس مفيدة للعاملين في قطاع الخدمات المالية وعلى رأسهم القائمون على تنظيم السوق.
يقدم الكتاب قضيته من خلال سرد قصصي لحياة هذا المحلل في أروقة الشركات الأمريكية العملاقة ومشاهداته للتجاوزات الأخلاقية التي عاشتها البورصة الأمريكية خلال فترة انتعاشها في النصف الثاني من التسعينيات. وتتمحور التجاوزات الأخلاقية التي يشير إليها المؤلف حول التداول بناءً على معلومات داخلية، وتسريب المعلومات، وتعارض المصالح، والفساد المالي على مستوى إداراة الشركات، إضافة إلى فساد الإعلام الاقتصادي. وقد حاول إبراز دور الباحثين والمحللين العاملين في شركات المصرفية الاستثمارية investment banking في هذا الفساد، من خلال التلاعب بالأرقام إلى تسريب المعلومات حول بعض الصفقات المهمة. فعلى سبيل المثال، أبرز المؤلف قضية اندماج عملاقي الاتصالات في الوالايات المتحدة شركتي Sprint وWorldCom وكيف أنه تم تسريب هذه المعلومة بأدق تفاصيلها لصالح بعض المحافظ قبل 27 يوماً من تاريخ الإعلان مما رفع من القيمة السوقية للشركتين بحوالي 14 مليار دولار خلال بضعة أسابيع. وكأن المؤلف يوجه صراحة أصابع الاتهام للشركة التي قامت على تنفيذ صفقة الإندماج والمحللين الماليين العاملين فيها من خلال استغلالهم لهذه المعلومة.
بطبيعة الحال، فإن القصص التي أوردها المؤلف تكاد تكون أمراً "شائعاً" في عالم المال والأعمال. وإنما أتت رسالة الكتاب لترسخ الصورة التقليدية لما يمكن أن يكون عليه الحال في أسواق المال، وأن الفساد المؤثر لا يقتصر على كبار التنفيذيين في الشركات بل يشمل المحللين العاملين في تلك الشركات. بالرغم من تأخر هذه الرسالة بالنسبة للسوق الأمريكية، إلا أنه قد يكون لنا فيه شيء من العبر في السوق السعودية لا سيما واننا مازلنا في أول الطريق.
إن منابع الفساد المالي تأتي من جهتين، أولاهما تأتي من الفساد الناجم عن فقدان الشخص لأخلاقيات المهنة، أما المنبع الآخر فيأتي نتيجة لضعف الإطار المنظم لمعايير الشفافية والإفصاح. فيما يتعلق بالمنبع الأول، فإن الجهات التنظيمية مهما سعت نحو مكافحة هذه السلوكيات المخالفة إلا أنها ستبقى ما بقية السوق المالية، وهذا السلوك بطبيعة الحال ليس حكراً على قومية دون أخرى، إنما هي مثالب يشترك فيها بني البشر باجناسهم المختلفة، فتجدها في الأسواق الناشئة كما هي في أسواق المال الأكثر تقدماً. أما المنبع الآخر، فيمكن التعامل معه من خلال تعزيز التشريعات بعقوبات رادعة، ناهيك عن الجدية في تطبيقها، وذلك للتقليل (فقط!) من احتمالات ظهورها لا سيما في ظل ظهور بوادر سباق "محموم" بين مقدمي الخدمات المالية في السوق السعودية!

استشاري اقتصادي

الأكثر قراءة